الاثنين، 18 يناير 2016


لميعة عباس عمارة

وجدت في لغة أهل العمارة الكثير من الفصحى المنسية. وجدت فيها الكثير من العواطف الحقيقية. وجدت في العمارة روح الشعر. الكل يشعر، عمال البناء، بائعو الخضار ينادون بوزن وقافية ويؤلفون الردات للمزح وتسيير الوقت خلال العمل. الشعائر الحسينية ما نسميه بالقرايات أو مرثيات الحسين، تثقفنا بهذة الثقافات. كنت أذهب من "قراية الى قراية" وكنت أكثر الناس بكاء. أذننا تعلمت على هذا الوزن وهذة اللمسة الإنسانية. الرثاء الحسيني يُعلم رقة القلب. تعلمنا الكرم الحقيقي والبساطة. أهل العمارة طيبون جداً وبسطاء الى أبعد الحدود. أطيب أكلة عندنا كانت هي الخبز والبصل والملح الخشن على سطح البيت. انا أحببت كل شيء في العمارة. 
عفاف نعش: وغير المراثي، ماذا عن الأهازيج والأفراح؟
 لميعة عباس عمارة: كلها شعر أيضاً. كنا نتحدث شعراً إن أردنا. النُكت والحزورات كلها كانت تقال شعراً. في الأعراس كانت الاحتفالات تستمر شهراً كاملاً، وتكون مجالس للنساء فقط. يجتمعون كل يوم ويقولون الشعر ويغنون ويرقصون. هذا الشعر كان يُسمى غزل البنات وهو شعر منقول وجريء ولا يُعرف اسم القائلة من باب الخجل لهذا تقوله البنت ولايُحسب عليها، مثلا: 
"من الحزام وفوگ مرخوص الأسمر   
 وخاف الطمع يازيك حنَ نْتـگشمر"
شعر آخر جميل تقول فيه:
"كون أنّة نجمة بليل واسگط على اغطاك
وبحجة البردان واتلفلف اوياك 
انظري إلى الجرأة والغزل. المرأة العراقية تقول الشعر في بيت واحد، صدر وقافية. مثلا:
نذرك يَشيخ أدخيل نوط ابو الميَّة     
من افز والگي هواي غافي اعـلـديَّة  "على يديَّ" 
وشيخ دخيل كان من عائلة والدتي وكان مزار يزوره الناس لطلب النذر ونوط أبو المية هي العملة النقدية الإنكليزية المستعملة أيام زمان. هناك شعر آخر يقول:
"من الگلت و الگال توني استراحيت  
انّة وعزيز الروح صرنا فرد بيت"
هذا الأخير سهل. لا بأس، هو أصبح "حلالها" فاستراحت من كلام الناس.
عفاف نعش: وماذا عن اللوليات (الغناء للطفل وقت النوم)، هل تذكرين شيئاً من هذا الشعر؟
لميعة عباس عمارة: نفس الأشعار الحزينة النواعي (جمع نعوة) التي تقال لرثاء الموتى تلالي به الأم لطفلها عند وقت النوم. سمعت عمتي (حسنة) ترثي أبي بصوتها العذب تقول:
"ذاك الفراش الجان مفروش
وذيج العيال الجانت تروش
صفينا يخوية بسبرة اطرو"ش
هذا النوع من الشعر تلالي الأم به لطفلها وقت النوم. مثلا: 
"يمة رتك تباريلي المطية
وتوصي الجناز بيَّ
أنا الولادة وعينك علية
يا الولد يبني"
المطية هي حمارتها وهي كل ما تملك والجناز هو الدفان. فهي توصي ابنها بما تملك، حمارتها وجسدها، أن يعاملا برفق عند رحيلها.
عفاف نعش: لماذا كل هذا الحزن في وقت تنويم الطفل ويفرض أن يكون وقت راحة؟ 
لميعة عباس عمارة: هي السكينة إلى النفس، هو الحزن المتعمق في تاريخ الجنوب. الجنوب كله مآسي، قطيعة مع بغداد وفقر. حتى أن الطريق الذي يوصل ببغداد لم يكن معبداً كي يمنع هجرة الفلاح. الفلاح العراقي كان مظلوماً تحت سيطرة الإقطاعي ولهذا كانت الحركة الشيوعية قوية في المناطق الجنوبية. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق