محلتنا و السياسة
السياسة في محلاتنا الشعبية وبالذات محلتنا
عبارة عن قوت يومي يتناولها الناس في حياتهم
اليومية بالرغم من مستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتواضعة
اذ تجد معظم اهل محلتنا من الحرفيين والعاملين في مهن متواضعة فتجد النجار والحداد
والبناء والقندرجي والخياط والمجاري والدلال او الاعمال المرتبطة بالدولة كالشرطي
والعسكري والاطفائي
واذا اصبح لدى احدهم تحصيل دراسي بمستوى
معين وتعين في وظيفة تتطلب ذلك تجده اصبح من الطبقة الوسطى وسرعان ما يغادر المحلة
للسكن في مكان ارقى من محلتنا الشعبية والتي استجد السكن فيها في اطراف المدينة
مثل منطقة الكسرة والبتاوين والكرادة ، ونرجع الى محلتنا حيث كانوا على بساطتهم
يتداولون السياسة والاتجاهات السياسية الموجودة في تلك الازمان ، فايام الحرب
العالمية الثانية وصعود نجم هتلر وبدافع العداء للانكليز مستعمري بلدنا والمحركين
لسياساته تجد ان الكثيرين من ابناء شعبنا ومنهم اناس من محلتنا يفاخرون بهتلر
وانتصاراته التي اكتسحت الحلفاء فتجد ( ابو خرمة ) الشخصية التي تكلمنا عنها في
مقال سابق يقف في وسط المحلة او السوق ويصرخ باعلى صوته ( يعيش هتلر ) ، كما ايد
الكثيرين ثورة مايس وعلى رأسها رشيد عالي الكيلاني والعقداء الاربعة سنة 1941
ويذكرونها باستمرار واصبحت يؤرخ بها ميلاد الكثيرين فيقولون جاء فلان الى الدنيا
في ( دكة رشيد عالي ) او ما تبعها من حالة الفوضى التي عمت البلد واستباحة اليهود
فيما عرف ب (الفرهود ) والذي كان نتيجة انتشار انباء عن قيام اليهود في فلسطين
بهجمات على العرب فيها ، وفي مراحل اخرى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي
بداية الخمسينات حيث انتشرت الأفكار الجديدة سواء القومية او الشيوعية وتأثر الناس
بهذه الافكار فذهب بعضهم بهذا الاتجاه او ذاك ، لكن الصفة الطاغية على محلتنا كانت
الافكار القومية النابعة من انتمائهم العشائري العربي ، مثلما كانت بعض محلات
بغداد ذات الصفة القومية المختلفة تجد ضالتها في الافكار الاممية الشيوعية لتداري
به انتماءها العرقي ونشير بذلك الى محلة عكد الكرد ذي الغالبية الكردية الفيلية
حيث انتشرت فيه الافكار الشيوعية ، ومحلتنا العربية التي اتجهت الى الافكار
العروبية وجدت في بداية الخمسينات مثالها وبطلها القومي عبد الناصر لحين بروز
تيارات واشخاص ذوي اتجاهات عروبية بعد ثورة تموز 1958 ، فكان الكثيرين من ابناء
المحلة وخصوصا الشباب منهم في ذلك الحين يتصدون للدفاع عن شخوصهم وافكارهم التي
يعتقدون بها في المناسبات والنشاطات الجماهيرية وحتى نساء المحلة كانت تتبع
التوجهات السياسية التي تسود في المحلة ،
وكان يبرز هنا او هناك في المحلة من يغرد خارج السرب من ابنائها فتجده توجه نحو
الشيوعية او حركة الاخوان المسلمين التي بدأت ايضا نشاطها وتحاول ان تجد لها مكانا
بين المتصارعين الرئيسيين القوميين والشيوعيين لكنها منذ ذلك الزمان كانت حركة
انطوائية وباطنية لايبان منها الا التأسلم دون ان يكون لها رأي سياسي ولحين طرح
نفسها بعد ثورة تموز ومحاولة حصولها على اعتراف حكومي بها بعد صدور قانون للاحزاب
، واذكر في فترة الستينات حين انتشرت في محلتنا ملصقات الاخوان فجأة دون ان نعلم
من نشرها ، وكنت اعرف على الاقل عائلة واحدة منتمية لهذه الحركة ذات الغطاء الديني
.
واذكر ان والدة
راعي الصفحة رحمها الله كانت شديدة التطرف في عروبيتها وتقدس الشخصيات العروبية
ايامها ، ومنذ بداية الخمسينات وهي ترفع صور عبد الناصر في بيتها و كانت كشخصية
ذات ثقافة فطرية اسوة بأبيها واخوتها الذين كانوا يغذونها بالاخبار والمستجدات
التي يتلقونها من خلال الراديوا ابوالصمامات الذي كان يسحب وبفعالية عالية ابعد
المحطات الاذاعية العالمية او من خلال تواجدهم المستمر في المقاهي الشعبية ومن شدة
انجرافها بالمد القومي الذي فجره وقاده عبد الناصر بطرحه مفاهيم القومية العربية
والوطن العربي والوحدة العربية كانت في ايام العدوان الثلاثي على مصر حامل بيّ
وعند وضعها اصرت على حملي اسم ( جمال ) لكن اخوالي لم يوافقوا على ذلك في حينها
لأعتبارات خاصة وكان الكثيرين من ابناء شعبنا اطلقوا على مواليدهم في ذلك التاريخ
تسمية جمال او عبد الناصر اعجابا منهم بشخصيته القوية وتحديه للاستعمار ، واشتد
تعصب والدتي لأعتقادها وصار اكثر تأكيدا بعد قيام ثورة تموز وبروز نفوذ الشيوعيين في
السلطة والشارع العراقي ومحاولة ابعاد البلد عن وسطه العربي ومعاداتهم للطروحات
القومية بسبب اعتقادهم الاممي ومحاولة فرض افكارهم على الاخرين واصطدامهم بالتيار
العروبي والاسلامي الذي كان يشاركهم البلد مما ادى الى حدوث انشقاق في الصف الوطني
قاد البلد الى صدامات بين الاتجاهات التي قادت تغيير الحكم الملكي وخصوصا بين
القيادات العسكرية التي ترفض الأحتكام الى منهج الحوار والمجادلة واول ما يفكرون
به هو مسدسهم الذي يحملونه ، وهذه الفورة في الشارع العراقي وجدت لها انعكاسات في
بيوتنا في محلتنا الشعبية تلك فتج الاخوة انقسموا بين مؤيد لهذه الجهة او مؤيد
لتلك وكذا الحال بين الزوج وزوجته ، ووجد هذا الصراع في بيتنا وسطا له بين الوالد
والوالدة اذ كنا نحن صغارا لا نفهم منه شيئا وان كنا سنتخذ جانب الوالدة في حالة
فهمنا لكونها كانت اكثر تأثيرا علينا في تربيتنا وهذا حال الكثير من العوائل ، كان
والدي ذاك الرجل الريفي الذي ترك الريف نتيجة جور الاقطاع وهاجر الى المدينه فكان
اكثر قربا الى الأفكار التي تشدد على محاربة الاقطاع وتدعم مواقف العمال والفلاحين
في مظلوميتهم وتطالب بمنحهم حقوقهم في السيطرة على رأس المال والملكية لأدوات الأنتاج
وغير ذلك من الافكار التي نادى وسعى الى تطبيقها بعد الثورة الشيوعيون ، وهنا كان
الصدام مع والدتي .
كان يمكن ان لا
ينجرف الوالد في اي نشاط يمكن ان يحسب كنشاط سياسي وخصوصا هو ذلك الرجل الامي
الفلاح المهاجر من الريف الى المدينه والذي يحاول ان يجد له مكان فيها لكن الاوضاع
بعد قيام ثورة تموز وعمل الحركات السياسية على تحريك الشارع وكسبه الى جانبها كل
على حدة وعسكرة المجتمع وزجه لدعم الحكومة العسكرية المفصولة عنه عن طريق اقامة
التظاهرات والمهرجانات وتشكيل ميليشيا ( المقاومة الشعبية ) التي كانت في بدايتها
يشترك فيها جميع التيارات والاتجاهات القومية والشيوعية والديمقراطية لكنها فيما
بعد استفرد بها الشيوعيين وسخروها لتحقييق اهداف حزبوية ضيقة ، وعلى ذكر كثرة
التظاهرات التي تخرج لتأييد الحكومة كانت هناك سالفة متداولة في الشارع وهي من
الاقاصيص التي كانت تروّج لتضخيم صورة القائد في ذلك الحين وتقول هذه السالفة انه
في يوم ما كان هناك احد الكسبة من سكنة منطقة خلف السدة التي كانت يقطنها
المهاجرين من الريف الى المدينه قبل ان يقوم الزعيم بحل مشكلتهم وانشاء مدن لهم في
اطراف المدينه ، خرج هذا الكاسب كما تعود قبل بزوغ الفجر طلبا للرزق وكان يهرول
على الطريق الترابي المؤدي الى منطقة باب المعظم وهو يضع ذيل دشداشته في حزامه
ويشد يشماغه الجنوبي على راسه وهنا احس في وسط الظلمة بشخص اخر يهرول معه وكان كما
بدا له عسكريا من لمحه لملابسه وسلم عيه العسكري وهم يهرولون معا وسأله عن شأنه
ولماذا يهرول هكذا فاجاب الرجل الكاسب
بانه يريد ان يلحق بفرن الصمون لعله يستطيع ان يحصل على كمية من الصمون يبيعها
ويسترزق بها في بسطيته في باب المعظم ويطعم اولاده الصغار وهو المعيل الوحيد لهم ،
لكنه اضاف متمنيا عسى ان لاتكون هناك تظاهرة لهذا اليوم اذ انه ( كل يوم مطلعينا
مظاهرة والناس تروح الها وتبقى الصميمينات وما تنباع وكل هذا من ورى هالمشعول
الصفحة الزعيم ) لم يكن يدري ان من كان يهرول الى جانبه كان الزعيم نفسه الذي نزل
عليه بالمسبه ، وكان ضوء النهار قد بدأ بالتسرب حينها حيث استطاع ارجل الكاسب ان
يتمعن في صاحبه المهرول معه ويتبينه جيدا اذ شاهد النجوم تلمع على اكتافه وصورته
التي لن يغفل عنها التي يواجهها يوميا في الشارع والبيت وهنا توقف عن الجري ونظر
نظرة وخر صريعا دون ان ينطق اي كلمة حيث تبين انه فارق الحياة ؟؟؟
يحكى انه في احدى
المرات خرج ابي للمشاركة في تظاهرة تأييد لقاسم وحكومته ( ؟ ) مع زملائه في العمل
وكان مسار التظاهرة من منطقة الرصافة عبر جسر الشهداء باتجاه منطقة الكرخ واللذين
هم من ىسكان بغداد في تلك الفترة يعرفون ماذا يعني الكرخ ( ؟ ) وما ان وصلت
التظاهرة الى وسط الجسر حتى فوجئت بجمع غفير من الناس يصلونها بالحجارة ومن ثم تم
الاشتباك مع المتظاهرين بالعصي والايدي وكان ابي احد حاملي اللافتات في التظاهرة
مما عرضه الى تلقي الكثير من الضرب وادى به الى الهرب حيث عاد الى البيت يزبد
ويرعد ويلعن السياسة والسياسيين والناس اجمعين وايضا استقبلته والدتي باللوم لذهابه في مظاهرة تأييد للزعيم قاسم والتشفي
بما حصل له وهذا ما زاد في غضبه وكان قد احضر اللافته التي كان يحملها معه الى
البيت لانه كان لا يعرف ما يفعله بها وخوفا من ان يرميها في الشارع فقام اليها
وبرم قماشها على قطعها الخشبية وراح حاشرا اياها في بالوعة المجاري ( ؟ )
استمر ابي في حبه
وتأييده للزعيم قاسم (( راعي الفقراء )) ولم يغير اعتقاده بالرغم من عدم اشتغاله
بالسياسة ولا هو من اهلها حتى انه عند نجاة الزعيم من محاولة اغتياله كان قد ذهب
بخروف ليذبحه فداء له على السلامة وكان الكثيرين من ابناء شعبنا قد قاموا بهذه
الفعالية البعض بحسن نية والبعض تملقا للسلطة ( ؟ )، حتى جاء انقلاب شباط الذي قام
به معارضوا قاسم من القوميين والبعثيين عندها كان ابي مريضا مقيما في المستشفى
الجمهوري في باب المعظم وكانت والدتي تعاوده يوميا وتذهب له باحتياجاته وبعض
الطعام الذي تطبخه له مما لا يقدمونه في المستشفى ، ولم يمنعها منع التجول المفروض
خلال ايام الانقلاب الاولى ، وكان انها في احد الصباحات بعد استتباب الوضع لصالح
الانقلابيين ان حظيت بمواجهة مع السيارة التي تقل عبدالسلام عارف قائد الانقلابيين
وذو الاتجاه القومي المستقل والعدو اللدود لقاسم ، وكانت والدتي من مريديه واحبابه
منذ ايام ثورة تموز الاولى ومتابعه لأخباره ورفاقه ومستميته في الدفاع عنهم في
المواجهات الكلامية مع اعدائهم اسوة بغالبية سكان محلتنا كما اسلفنا ، وكانت
والدتي تحاول عبور الشارع عند ساحة باب المعظم التقاطع القريب من الجسر وزارة
الدفاع حيث كان ينتصب نصب المقاتل الذي تم الغاءه خوفا مما يثيره من نوازع الفخر
والانتصار ، فما كان منها الا ان برمت طرف عباءتها السوداء العراقية على يدها
ملاعبة بها فوق راسها و مرتجزة بهوساتها
القديمة التي تحفظها من ابيها واخيها الشعراء وتتبعهن بهلهولات تمزق حالة السكون
الصباحي للساحة الخالية من الحركة لوجود منع التجوال المفروض و فرضت على سيارة
الرئيس التوقف لتحية هذه المرأة التي ظهرت امامه فجأة وبصورة غير متوقعة مهللة
للثورة وقائدها ، حيث انزل زجاج سيارته ووقف مستمعا لهوساتها ومن ثم حياها شاكرا
واستمر في سيره ، وكانت والدتي تتفاخردائما برواية لحظة لقائها بالرئيس عبد السلام عارف الذي كانت
تقدسه ( ؟ ) وتحتفظ له بصورة كبيرة سرعان ما علقتها في وسط ايواننا في بيتنا
القديم بعد انتصار انقلابه .
عندما حدث
انقلاب شباط كان والدي راقدا في المستشفى الجمهوري كما اشرت سابقا اذكر ان ابناء
المحلة كانوا حينها مؤيدين للأنقلاب في غالبيتهم ، وكان موقع محلتنا في زاوية
تقاطع شارعين هما الكفاح والسباع وما يشكله شارع السباع من اهمية في كونه يربط
الكفاح مع الشيخ عمر وما تشكله حديقة السباع من رمزية تاريخية لم اكن اعرفها في
حينها كونها انعقد فيها اول مؤتمر للاتحاد العام لطلبة العراق ذي الصبغة الشيوعية
وكونها ساحة كبيرة تصلح لأقامة التجمعات والمؤتمرات واللقاءات السرية تحت اشجارها
الكثيفة وظلالها الوارفة ، وتشكل محلتنا موقعا ستراتيجيا من حيث وقوعها على هذا
التقاطع فهي على الطريق الرابط مع شارع الشيخ عمر وهو اخر شوارع بغداد القديمة
وبعده تأتي السدة المحيطة ببغداد القديمة والتي كانت تنتشر خلفها غابة الصرائف
وبيوت الطين التي الغاها الزعيم بتوزيع اراضي لساكنيها في مساحة من الارض البور
تقع شرق بغداد لم تكن ضمن التخطيط العمراني لمدينة بغداد بالرغم من قربها منها
لكونها قد تم وصفها اراضي استكشافات نفطية لأحتوائها على خزين نفطي كبير ، قام
الزعيم بالتوجيه بالتغاضي عنه وتوزيعها على المحرومين النازحين من جور الفقر
والعوز من محافظات الجنوب والوسط وحتى الشمال الباحثين عن فرص عمل في مدينة بغداد
( العاصمة ) ، حتى انهم اطلقوا على تجمعات صرائفهم ذلك الاسم ( العاصمة ) لا نعلم
هل هو استهزاءا بواقعهم المرير ام اعتزازا بعاصمتهم وفرحتهم بالسكن فيها بالرغم من عدم وجود تغيير في بيئة
تواجدهم التي نقلوها معهم من حيث نوعية السكن في بيوت الطين أو تربية الحيوانات (
للاستفادة منها لمعيشتهم او الاسترزاق من بيع منتجاتها من الحليب واللبن الرائب
والقيمر) او مجاري المياه التي توسعت
لتصبح انهر للمياه الاسنه مثل نهر شطيط ، هذه الحال الذي استفز الزعيم الطموح
للتغيير والذي رفع شعار الفقراء شعارا له ولثورته ، هؤلاء المسحوقين خرجوا لنصرة
زعيمهم الحبوب الذي لم تكن صريفة او بيت من الطين او التنك لتخلوا من صورته معلقة
الى جنب صورة الامام علي ( عليه السلام )، وكان مسار تظاهرتم يمر من منطقة ساحة
النهظة وشارع الشيخ عمر ومن ثم الى شارع السباع باتجاه باب المعظم حيث تقع وزارة
الدفاع التي التجأ اليها الزعيم لمواجهة المتمردين اللذين حاصروه فيه ، هذا من جهة
ومن جهة اخرى يقع ليس ببعيدة محلة شعبية اخرى من محلات شارع الكفاح تؤيد وتساند
الزعيم تلك هي محلة ( عكد الكرد ) حيث غالبية قاطنيها من الكرد الفيلية اللذين
يكنون حبا شديدا للزعيم وذلك لأسباب عدة منها ان الكثيرين منهم وجدوا في الشيوعية
حل لقضيتهم القومية في بلد عربي الصفة متعدد القوميات ، والسبب الاخر طروحات قاسم
العراقية المبدأ والسبب الاعمق انتماء قاسم من جهة الام اليهم حيث كانت امه (
كيفية ) فيلية ، وصبيحة الانقلاب كان قد مر قاسم على حيهم بسيارته في طريقه الى
وزارة الدفاع حيث حوصر فيها ، واستقبله اهالي العكد بالهتافات واستعدادهم للقتال
دفاعا عنه ، لكن الزعيم طمئنهم قائلا ( انهم مجموعة من الزعاطيط سيتم القضاء عليهم
فلا داعي للخوف ) ، وفعلا تحرك هؤلاء في تظاهرة سارت الى وزارة الدفاع لكنها
اصطدمت بدبابات الانقلابيين التي فرقتهم فعادوا الى محلتهم واعلنوا تمردهم فيها
وحصنوها لمقاومة الانقلابيين وعملو المتاريس في مداخلها لمنع دخوا اي قوات
للانقلابيين الى محلتهم والقبض على معارضيهم ممن يؤيدون حكم قاسم ، لكن حجم
تسليحهم ومقاتليهم لم يستطيع الصمود امام دبابات الانقلابيين وهاوناتهم التي دكوا
بها محلتهم الشعبية واقتحموها خلال اليومين الاولين من قيام الانقلاب واذاعة خبر
القضاء على حكومة قاسم واعدام رؤوسها في اليوم الثاني للأنقلاب .
صباح قيام
الانقلاب تجمع شباب محلتنا عند مدخلي محلتنا من جهة شارع الكفاح ومن جهة شارع
السباع وهم يتداولون نبأ قيام حركة عبد السلام عارف وبمساندة البعثيين وتطوراتها
المنقولة عن طريق الراديو ويسمعون اصوات الاطلاقات المستمر الناتج عن قيام قوات
عسكرية بمحاصرة وزارة الدفاع التي التجأ اليها قاسم وتمت محاصرتها والطلب اليه
بالتسليم ، لكنه رفض عرضهم واستمر بالمقاومة بالقوة القليلة التي استمرت بالقتال
معه وقامت طائرات من القوة الجوية بدك ابنية وزارة الدفاع بقنابلها لكن ذلك لم
يجعل المقاتل قاسم يستسلم وهو الذي خبر الحروب وخاضها في فلسطين وشمال العراق وكان
يتصل تلفونيا بقوات من خارج العاصمة للتدخل لكن لا من مجيب واشتعلت الحرائق في عدد
من ابنية وزارة الدفاع المنتشرة واتصل قاسم بالاطفاء طالبا منهم ارسال مفرزة
لأطفاء الحرائق لكن دائرة الاطفاء استلمت الاوامر من القائد العام ولم تنفذها لعدم
تمكنهم المرور من بين القطعات المحاصرة وكذلك لأستنتاجهم بانهيار الموقف لصالح
الانقلابيين ، واستمر الموقف على ذلك الحال حتى ظهيرة ذلك اليوم وبعدها لم يجد
الزعيم بدا من استسلامه والخروج حيث تم سوقه مع من كان معه من الضباط الى دار
الاذاعة العراقية وتم تنفيذ حكم الاعدام به وبرفاقه بعد محاكمة صورية ، اما في
الشارع فقد كان يغلي بين مساندي قاسم اللذين تكلمنا عنهم ومعارضيه من القوميين
والبعثية وخرجت عدد من التظاهرت والمجاميع المؤيدة لقاسم من مناطق بغداد المختلفة
وبشكل اساسي من سكنة مدينة الثورة وعكد الكرد وكان طريق مجاميع مدينة الثورة كما
بينا يمر بساحة النهظة مكان تجمع العاملين في البناء المسحوقين فكانت المسيرة تضم
الكثيرين منهم جاؤوا حاملين فؤوسهم ومساحيهم ويهتفون لقائدهم الذي كرمهم بمدينتهم
التي انقذهم بها من سكنى الصرائف وبيوت التنك ، حتى وصلت المسيرة الى ساحة السباع
وهنا خرج شباب من محلتنا ومن المحلات المجاورة وقطعوا الطريق عليهم بما يمتلكوه من
اسلحة نارية وخناجر شهروها في وجوه المتظاهرين مما اضطرهم للانسحاب والتفرق والهرب
بعد عدة اطلاقات اطلقت في الهواء لتفريقهم ، وظل شباب محلتنا يتناوبون في رصد
الشارع لمنع اي تحركات مناوئة حتى استتباب الامر لصالح الانقلابيين .
وكما كانت هناك
تجربة للشيوعيين في ميلشيات مساندة للسلطة بعد ثورة تموز سميت ( المقاومة الشعبية
) كان هناك ممارسة جديدة تم طرحها في الشارع من قبل البعثية بتشكيل ميليشيا شعبية
من مناصريهم ومن التحق بهم سميت ( الحرس القومي ) وكانت محلتنا ذات الطابع القومي
العروبي غير متجاوبة مع البعث بشكله الحزبي بالرغم من تقاربها مع طروحاته القومية
ومعارضته للنظام القاسمي الذي تمكن منه الشيوعيين ،
وكان ان لم ينظم
من شباب المحلة الى تشكيلات ( الحرس القومي ) وتنظيمات حزب البعث الا نزر يسير
منهم ، وبقي غالبيتهم مؤيدين للأنقلابيين المستقلين اللذين توجهوا الى عبد الناصر
كملهم لهم في طروحاته وقائد للقوميين العرب وخصوصا بعد انشقاق البعثيين في سوريا
من قيادته وانفصالهم عن دولة الوحدة التي سعو اليها مع مصر ،
كان هنا اثنان او
ثلاثة من شباب المحلة قد انضموا الى حزب البعث وكذلك شاركوا في تشكيلات الحرس
القومي ، وكذلك كان هنا بعض السائرين مع الموجة من كبار السن اللذين انضموا الى
الحرس القومي لا اعلم من غاياتهم شيئا سوى الظهور والمباهاة والتي عادت عليهم
بالمصائب بعد انقلاب عارف على البعثيين وحرسهم اذ تبين بانه ليس لهم ناقة ولا جمل
في الموضوع فرموا ببنادقهم وبدلهم العسكرية في الشارع ما أن نزلت اول الدبابات
العسكرية لضرب الحرس القومي وايقاف مهازلهم و تجاوزاتهم على المواطنين الامنين ،
فقط اللذين كان لديهم ايمان مصيري كانت منهم مقاومة لقوات الجيش التي بدأت
بمطاردتهم من شارع الى شارع ومن زقاق لاخر ، وراحت مجاميع الحرس تستعمل اساليب حرب الشوارع مع الدبابات وتملأ
قناني المولوتوف لتستخدمها ضد المدرعات التي لا ينفع معها الرصاص الخفيف ، لقد طفح
الكيل بالناس ولم يعودوا يتحملون تصرفات المنضوين الى ميليشيات الحرس وهكذا حال كل ميليشيا غير منضبطة لا تلتزم بالقوانين
وتتداخل فيها مصالحها الخاصة الضيقة مع مصالح الجهات السياسية التي شكلتها .
انتهى
نفوذ البعث في السلطة وسيطر عارف على الاوضاع في البلد وشكل حكومته من القوميين
المستقلين وهربت قيادات البعث التي لم يتم القاء القبض عليها الى سوريا ومنهم علي
صالح السعدي امين سر القيادة القطرية ومنذر الونداوي قائد الحرس .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق