الأربعاء، 18 مايو 2016

في العام 1955 نشر الروائيّ الأمريكيّ من أصل روسي فلاديمير نابوكوف(1899_1977)



سيرة الثورة الإيرانيّة من منظور مغاير! 

رائعته الأدبية"لوليتا"، والمفارقة تكمن في كون هذا العمل المدهش مُنِعَ أول الأمر من التداول في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد ثلاث سنوات حققت مبيعاته أرقامًا قياسية، وأصبحت الرواية من أشهر روايات كتب الجيب الأمريكية، وباع المؤلف حقوق تحويلها إلى فيلم سينمائيّ هوليوديّ. وفي العام 2003 نشرت الكاتبة والأستاذة الأكاديميّة الإيرانيّة آذر نفيسي سيرتها الذاتيّة أولاً في كتاب أسمته"أن تقرأ لوليتا في طهران" وجعلته تحت اسم"رواية". ونفيسي هي أستاذة الأدب الإنكليزي الزائرة في جامعة جون هوبكنز في الولايات المتحدة الأمريكيّة(تحمل لقب بروفيسور) ومديرة(مشروع الحوار) في معهد السياسة الخارجيّة والأستاذة سابقًا في جامعتي طهران والجامعة الإسلاميّة الحرة والعلاّمة الطباطبائيّ. وفي سنة 1981 فُصِلَت من جامعة طهران بعد رفضها ارتداء الحجاب، وفي سنة 1994 حصلت على منحة دراسية من جامعة أوكسفورد ثم في سنة 1997 غادرت هي وأفراد أسرتها إيران متجهة إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة. وهي تكتب في الصحف الأمريكية مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال ونيو ريببلك.

كتبت آذر نفيسيّ سيرتها الذاتية مرتين، الأولى كانت تحت إسم رواية وعنونت كتابها "أن تقرأ لوليتا في طهران" والثانية كانت سيرتها الذاتية "أشياء كنت ساكتة عنها". .ترى ماالجامع بين العملين؟ وهل ثمة تشابه بين نابوكوف الروسيّ وآذر نفيسي الإيرانيّة؟ ومن هي لوليتا التي كُتِبَت عنها رواية وضُمِنَت حياتها في سيرة ذاتية روائية؟ وماعلاقتها بالكاتبة؟ وماعلاقتها بطهران؟

إختارت آذر نفيسيّ رواية "لوليتا"لنابوكوف عنوانًا لعملها. والرواية باختصار تتحدث عن قصة طفلة صغيرة في الثانية عشرة من العمر عنيدة شرسة الطباع. وبعد وفاة والدها يغتصبها رجل عجوز اسمه هومبرت مستغلاً نزقها وطيشها ورغبتها في الاختلاف، ويسيطر على حياتها سيطرة شاملة قامعة محيلاً إياها إلى آلة صماء مُسخ لاماضٍ لها ولاحاضر ولامستقبل إلا مايكتبه هذا العجوز الذي امتلك تاريخها وأخذ يصوغه كيفما شاء إلى حد إقناعها بأنها هي المذنبة ومرتكبة الخطايا وليس هو! تقول آذر نفيسي عن لوليتا نابوكوف" إذا فكرتُ بانتقاء عمل أدبيّ يعكس واقعنا في الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة، فإنَّ هذا العمل لن يكون بأي حال "ربيع الآنسة جين برودي" ولاحتى"1984" ربّما يكون"دعوة لضرب العنق" لنابوكوف أو إنني أجد أقرب الأعمال حتى الآن هو "لوليتا". "لقد كان على هومبرت لكي يعيد ابتداع لوليتا أن يأخذ منها تاريخها الحقيقي ليضع مكانه التاريخ الذي يريد، ونحن لانتعرف إلى لوليتا إلا عن طريق هومبرت ولا نتعرف إليها عبر ماضيها، وإنما عبر ماضٍ خيالي مفترض يبتدعه الراوي الذي يقحم نفسه في حياتها.وهذا هو بالضبط ما أطلق عليه بعض النقاد نظرية الأنا عند "هومبرت".

تنتمي نفيسي إلى جيل إيراني عاش مرحلتين؛ ماقبل الثورة في عهد إيران الشاهنشاهيّة ومابعدها في عهد إيران الخمينيّة التي شهدت فيها إيران تحولات كبرى سياسيّة واقتصادية واجتماعيّة وثقافيّة، من نظامٍ ليبراليّ علمانيّ إلى نظام دينيّ متشدّد تحكمه ولاية الفقيه. وبالتالي يكتسب هذا الكتاب أهميته بوصفه سيرة ذاتية فكرية نسوية لامرأة عاشت طفولتها في إيران ثم في مدرسة داخلية في بريطانيا ثم سويسرا؛ إذ كان والدها محافظ إيران أيام الشاه. وهي تتحدر من عائلة إيرانية عريقة وميسورة تعود في أصولها إلى سلالة ملوك القاجار، واكتسبت هذه العائلة اسمها من جدها الأعلى الطبيب "ابن النفيس". وفجأة تُجبر نفيسي على القدوم إلى إيران بعد اعتقال والدها ثم تغادر لإكمال دراساتها العليا إلى بريطانيا وأمريكا وتشارك في الخلايا الثورية الماركسية لطلاب إيران في أمريكا ممن يريدون الإطاحة بحكم الشاه. عادت نفيسي إلى إيران بعد الثورة وتحديدا إلى طهران، وقضت عقدًا من الزمن هناك (1987_1997) فاصطدمت بقوانين الثورة الجديدة ورقابتها للمفكرين والمثقفين والأكاديميين وبمحاكم التفتيش التي تصادر الأدب الذي لايتفق مع منظورها الإيديولوجي، بما في ذلك إحكام الرقابة على روائع الأدب العالميّ والأفلام السينمائية وإخضاعها للبتر بمقص الرقيب. وبعد ما لقيت مضايقات كثيرة في الجامعة تستقيل وتغادر عائدة إلى أمريكا. تتحدث نفيسي عن صديقتها الرسّامة التي ابتدأت عملها بتجسيد مشاهد من الحياة اليومية وانتهى بها الأمر إلى التجريد والاكتفاء في لوحاتها ببقع متناثرة من الألوان الصارخة! تقول الرسّامة لنفيسي:" لقد أصبحنا نعيش واقعاً لايُطاق، واقعاً أسود قاتمًا إلى حد أنني لن أستطيع بعد الآن إلا أن أجسد لون أحلامي".

كان نابوكوف في التاسعة عشرة من عمره حينما قامت الثورة الروسيّة(البلشفيّة) العام 1917، ولم يسمح لنفسه بأن يتأثر بأزيز الرصاص ومناظر القتل والدماء، وواصل كتابة قصائده الصوفيّة والانغماس في عالمه الأدبيّ. وقدّم بعد سنوات مسرحية"رجل سوفييتيّ" انتقد فيها قمع الحكم الثوري(التوليتاري) للشعب الروسي.ّ تقوم نفيسي بجمع سبعة من أفضل طالباتها في مقرر الأدب الإنكليزيّ وتدعوهن لزيارتها في منزلها صبيحة كل خميس في ورشة عمل دراسية لمناقشة بعض الأعمال الأدبيّة العالميّة. و تكونت المجموعة الطالبيّة النسوية المختارة من أمزجة متباينة لشخصيات تنتمي إلى بيئات تتراوح بين الإنغلاق و الإنفتاح ومن التشدد إلى الإنفلات. ولم تلتفت نفيسي إلى تباين خلفياتهن الإيديولوجيّة أو الدينيّة، وكان المهم لديها هو عشقهن للأدب في تمثيله للحياة الإنسانيّة بكافة تعقيداتها . كانت أعمال نابوكوف وفي مقدّمها رواية"لوليتا" العمل المحوريّ الذي ركزت عليه تلك المناقشات؛ لأنَّ نفيسي أصبحت ترى نفسها وترى إيران في لوليتا فهي أدركت التشابه القائم بينهما؛ فلوليتا فقدت تاريخها وأصبحت لعبة يتحكم بها العجوز هومبرت وإيران بشراستها وجموحها تحولت إلى تابع يتحكم الملالي به وبكتابة تاريخه وامتلاكه! تقول نفيسي:"نجد أنَّ ماضي إيران الحقيقيّ قد أصبح أمرًا ثانويًا لإولئك الذين استحوذوا عليه، تمامًا مثلما أصبح ماضي "لوليتا" الحقيقيّ ثانويًا بالنسبة لهومبرت الذي غيّر اسمها الحقيقيّ من دولورس إلى لو ولولا ولوليتا". 

أفصحت نفيسي في سيرتها الذاتية "أشياء كنت ساكتة عنها" عن التحولات الشخصيّة الكبرى التي مرت بها الساردة إلى جانب انكساراتها وانطلاقاتها بعد الهزائم التي مُنيت بها. وربّما كان لكتابة هذه السيرة الذاتيّة باللغة الإنجليزية ما مكّن الكاتبة من التحرر من قيود لغتها الأصلية وإيجاد مساحة كبيرة لها للحديث بحرية عن مناطق محظورة ومسكوت عنها متعلقة بالدين والسياسة والجنس. تعترف نفيسي أنها وُلِدَتْ في أسرة مولعة بسرد القصص، فلوالدها سيرة ذاتية مكتوبة منشورة اقتصرت على سرد تاريخ إيران الحديث بعد أن حذف منها السرد الشخصيّ وسيرة أخرى مشوقة حافلة بكل التفاصيل المثيرة بما في ذلك علاقة والدها بنساء أخريات، وهي سيرة غير مكتوبة وبقيت حبيسة الأوراق. تقول نفيسي" كنا كأسرة مولعين بسرد القصص. ترك أبي وراءه سيرة ذاتية منشورة، وسيرة ذاتية أخرى غير منشورة أكثر إمتاعًا، وما يزيد على ألف وخمسمائة صفحة من اليوميات". وإلى جانب والدها كانت هناك والدتها الجميلة التي تختلق الحكايات عن طفولتها وشبابها فأوجدت لنفسها سيرة ذاتية مختلقة لجأت إليها للهروب من واقعها والتحسر على حياتها مع زوجها الأول"سيفو" الذي كانت تقارنه بالزوج الثاني"والد نفيسي" وكانت المقارنة تنتهي دائمًا إلى ترجيح كفة الأول. تقول نفيسي:"طوال سني حياتنا أنا وأخي كانت تتملكنا القصص الخياليّة التي يرويها لنا أبوانا_قصص خياليّة عن نفسيهما وعن الآخرين على السواء. كل واحدٍ منهما يريدنا أن نحكم على الآخر في صالحه أو صالحهما. في بعض الأحيان كنت أشعر أنني مخدوعة، كما لو أنهما لم يسمحا لنا بأن تكون لنا قصصنا الخاصة. الآن فهمتُ كم كانت قصتهما هي قصتي أيضًا".

تمتد سيرة نفيسي الذاتيّة لتتناول تاريخ إيران بدءاً من ولادة جدتها أوائل القرن العشرين إلى ولادة ابنة آذر في نهاية القرن العشرين، وقد سمح لها هذا الامتداد الزمنيّ بتتبع سير الأشخاص في تعالقها مع السياسيّ والثقافيّ والدينيّ في سيرة ذاتية كانت أبرز سماتها الصدق والصراحة والوضوح في التعبير عن مواطن الصمت التي قد لانجرؤ أحيانًا على البوح بها على رغم إشارة نفيسي المتكررة في الكتاب إلى أنَّ سيرتها ليست مقاربة سياسيّة ولا حتى اجتماعيّة.

تقول نفيسي: "لا أقصد أن يكون هذا الكتاب تعليقًا سياسيًا أو اجتماعيًا، أو قصة حياة نافعة. أود أن أحكي قصة أسرة تتكشف إزاء خلفية عهد مضطرب من تاريخ إيران السياسيّ والثقافيّ. ثمة قصص كثيرة عن هذه الأزمنة، بين ولادة جدتي في بداية القرن العشرين وولادة إبنتي في نهايته؛ هذه الأزمنة التي وسمتها ثورتان أعطتا إيران شكلاً معينًا، وأحدثتا انقسامات وتناقضات كثيرة بحيث أصبح الاضطراب المؤقت هو الشيء الوحيد الدائم". أفصحت آذر نفيسي في سيرتها الذاتية: "أشياء كنت ساكتة عنها" عن التحولات الشخصيّة الكبرى التي مرتْ بها الساردة إلى جانب انكساراتها وانطلاقاتها بعد الهزائم التي مُنيت بها. وربّما كان لكتابة هذه السيرة الذاتيّة باللغة الإنجليزية ما مكّن الكاتبة من التحرر من قيود لغتها الأصلية وإيجاد مساحة كبيرة لها للحديث بحرية عن مناطقَ محظورة ومسكوت عنها متعلقة بالدين والسياسة والجنس. تعترف نفيسي أنها وُلِدَتْ في أسرة مولعة بسرد القصص؛ فلوالدها سيرة ذاتية مكتوبة منشورة اقتصرت على سرد تاريخ إيران الحديث بعد أن حذف منها السرد الشخصيّ وسيرة أخرى مشوقة حافلة بكل التفاصيل المثيرة بما في ذلك علاقة والدها بنساء أخريات وهي سيرة غير مكتوبة وبقيت حبيسة الأوراق. تقول نفيسي" كنا كأسرة مولعين بسرد القصص. ترك أبي وراءه سيرة ذاتية منشورة، وسيرة ذاتية أخرى غير منشورة أكثر إمتاعًا، وما يزيد على ألف وخمسمائة صفحة من اليوميات". وإلى جانب والدها كانت هناك والدتها الجميلة"نزهت نفيسي" التي كانت تختلق الحكايات عن طفولتها وشبابها؛ فأوجدت لنفسها سيرة ذاتية مختلقة لجأت إليها للهروب من واقعها والتحسر على حياتها مع زوجها الأول"سيفو" الذي كانت تقارنه بالزوج الثاني"والد نفيسيّ" وكانت المقارنة تنتهي دائمًا إلى ترجيح كفة الأول. تقول نفيسيّ"طوال سني حياتنا أنا وأخي كانت تتملكنا القصص الخياليّة التي يرويها لنا أبوانا_قصص خياليّة عن نفسيهما وعن الآخرين على السواء. كل واحدٍ منهما يريدنا أن نحكم على الآخر في صالحه أو صالحهما. في بعض الأحيان كنت أشعر أنني مخدوعة، كما لو أنهما لم يسمحا لنا بأن تكون لنا قصصنا الخاصة. الآن فهمتُ كم كانت قصتهما هي قصتي أيضًا".

يمتدُ زمن هذه السيرة في سردها لحكايا العائلة ليمثل تاريخ إيران الحديثة منذ بداية القرن العشرين إلى أواخره؛ كانت البدايات زمن الثورة الدستورية الإيرانيّة (1905_1911) التي أحدثت انقلابًا صادمًا للمجتمع الإيرانيّ المحافظ مما سمح بوجود تأثيرات غربية واضحة في بنية هذا المجتمع. لقد التحقت والدة آذر بمدرسة فرنسيّة ولم تكن ترتدي الحجاب والتقت بزوجها الأول وهما يرقصان في حفلة زواج. وتشير سيرة نفيسيّ كذلك إلى مرسوم رضا شاه بهلوي سنة 1936 بجعل كشف النقاب عن وجوه النسوة إجباريًا مما أدى إلى معارضة كبيرة من الإيرانيين لهذا المرسوم، وفي النهاية أُلغي سنة 1941 لصعوبة تطبيقه على مجتمع لايزال محافظًا في بعض طبقاته، ويعاني من ازدواجية كبرى بين العلمنة والدين.

لقد عاصرت نفيسيّ تلك الازدواجية الكبرى بين العلمنة والدين في إيران خصوصًا في سنوات نشأتها الأولى في الخمسينات والستينات؛ لقد درست في مدارس أجنبية، وعاشت طفولةً على النمط الغربيّ، وعاشت مراهقة بعيدًا عن بلدها في بريطانيا أولاً ثم سويسرا ثم دراستها في الولايات المتحدة الأمريكية وعودتها إلى إيران بالتزامن مع اندلاع الثورة الإيرانيّة، وبالتالي تأتي مفارقة كبرى تحدثت عنها الكاتبة في سيرتها هي أنَّ ابنتها أُجبِرَتْ على ارتداء الحجاب في المرحلة الأولى من دراستها الابتدائيّة؛ وهذا يعني عودة القوانين ذاتها التي سادت إيران خلال عمر جدة آذر. وبالتالي تمتلأ هذه السيرة بالتقاطعات بين الشأن الخاص والشأن العام؛ ولذلك تصرح الكاتبة قائلة"نقاط التقاطعات تلك بين ماهو خاص وعام هي ماتطلعتُ إليه حينما بدأتُ بتدوين كتابي الأول، في إيران، الذي يتناول فلاديمير ناباكوف. أردتُ أن أناقش روايات ناباكوف في ضوء الأزمنة المختلفة التي قرأتها فيها. كان ذلك مستحيلاً، ليس فقط لأنني لم أستطع صراحة الكتابة عن الحقائق السياسية والاجتماعية للحياة في الجمهورية الإسلاميّة في إيران، بل أيضًا لأنَّ التجارب الفردية والشخصيّة كانت تتعامل معها الدولة بوصفها أشياء محرمة. في هذا الوقت تقريبًا بدأتُ بوضع لائحة في يومياتي حملت عنوان"أشياء كنت ساكتة عنها"، تحت هذا العنوان كتبتُ"الوقوع في الحب في طهران. الذهاب إلى الحفلات في طهران، مشاهدة أفلام الإخوة ماركس، أن تقرأ لوليتا في طهران".كتبتُ عن القوانين القمعية والإعدامات، وعن المكاره العامة والسياسية. وفي الختام انجرفتُ للكتابة عن إفشاء الأسرار الخاصة، مورطةً نفسي وأولئك المقربين مني بطرائقَ لم أتخيلها قط". 

إنَّ سرديات الصمت عند نفيسي متنوعة ولا تنحصرُ في نمطٍ واحدٍ بعينه؛ إذ تتراوح هذه السرديات من الصمت والسكوت السياسيّ إلى الصمت الشخصيّ. إنَّ أكثر أنواع السرديات شيوعًا _كما ترى نفيسيّ_ هو ذلك السرد المتعلق بالآباء الراحلين لملء الفجوة التي خلقها رحيلهم. ولذلك تصدر نفيسيّ سيرتها بالجزء الأول المعنون"قصص الأسرة الخيالية"، وبدأته بالحديث عن طاقات الاختلاق السردية التي كانت تمتازُ بها والدتها سليلة ملوك القاجار التي نجحتْ في اختلاق سيرة ذاتية رومانسية شخصية لها تتعالى بها على واقعها الحقيقيّ، وتحتفي"نزهت" سيرة الأم المختلقة تلك بسرديات الماضي المختلق أيضًا! في حين كان والد نفيسيّ"أحمد" يساعد طفلته الصغيرة"آذر" على اختراع الحكايا وطقوس السرد فتتماهى آذر مع شخصية "رودبه" في شاهنامة الفردوسيّ، وستظل هذه الشخصية لصيقةً بها لمدة سنوات طويلة بعد ذلك. ولقد قادت طاقات الاختلاق السردية تلك الطفلة الصغيرة آذر إلى احتراف الكذب وخاصة الكذب على والدتها بشأن علاقات والدها النسائية المتعددة؛ فقد كانت الصغيرة آذر متواطئة مع والدها في إخفاء تلك الغراميات عن والدتها، كما كانت ترافق والدها في مواعيده الغرامية تلك!

تتحدث نفيسي عن إيران الخمسينات والستينات حيث قضت طفولتها وجزءًا من مراهقتها المبكرة، وتتزيا تلك الطفولة بزيّ غربيّ محض؛ إذ تذكر نفيسي: " يبدو أنني أمضيت معظم سنوات طفولتي في شارع نادري وفي شبكة من الشوارع الجانبية التي تفرعت منه. هنالك مخزن الكعك المحلّى والمكان المخصص للجوز والتوابل، سوق السمك. مخزن العطور المدعو "جيلا" حيث اعتادت أمي أن تبتاع عطر نينا ريتشي، وقد كان صاحب المخزن يحتفظ دومًا بعينات قليلة مجانية لي. والمقهى الذي يحمل اسمًا أجنبيًا حيث تشتري أمي أنواع الشوكلاته خاصتها، من بين كل الروائح والأشذاء الخاصة بذلك الشارع الساحر، ما بقي مطبوعًا في ذاكرتي هي الروائح المتعلقة بالشوكلاته، التي كنا نلفظها كالكلمة الفرنسية شوكولا chocolat". وفي شارع نادري تزدحم مقاهٍ تتجاور فيها الموسيقى الفارسية مع الموسيقى العربية، و كانت الطفلة "آذر" ترتاد في طفولتها المبكرة إحدى الصالات في ذلك الشارع لتعلم رقص الباليه.

تحدثت نفيسي في سيرتها عن الأقليات من الأرمن واليهود والآذريين والبهائيين، وكان جلّ هؤلاء من أصحاب المخازن. تقول نفيسي: "مثلما كان شيئًا طبيعيًا أن يشتري المرء الحلويات والمرطبات من أصحاب المخازن الأرمن، أو أن يشتري الأقمشة والعطور من مخازن اليهود، كان من الطبيعي أيضًا بالنسبة لبعض العوائل أن تجتنب الأقليات لأنهم غير نظيفين". كان الأطفال يدقون أبوابهم منشدين :"الأرمنيّ، الكلب الأرمنيّ، كناس الجحيم". "اليهود لم يكونوا قذرين فحسب، بل إنهم شربوا دم لأطفال الأبرياء. كان الزرادشتيون عبدة النار وملحدين، بينما لم يكن البهائيون، وهم طائفة إسلامية انفصالية، مهرطقين فقط بل عملاء وجواسيس للبريطانيين وبالإمكان بل من الواجب قتلهم". 

وهكذا تعامل ذلك المجتمع الطبقيّ الإيرانيّ مع تلك الأقليات تعاملاً فيه قدر كبير من الازدراء الثقافيّ للآخر المختلف عرقيًا ودينيًا. واشتملت السيرة على مواضع تحدثت فيها نفيسي عن ملحمة الشاهنامة للفردوسيّ وعن مجيء العرب الغزاة الذين دمروا الحضارة الفارسية العريقة؛ وهذا أيضًا تنميط ثقافي عنصري للغاية وقعت فيه نفيسي مع كونها باحثة أكاديمية كان لابد لها من تحري الموضوعية فيما تكتب، ولكنه الانبهار المطلق بعظمة الحضارة الفارسية هو الذي قادها إلى مثل هذا العماء الثقافي!

تمثل علاقة آذر بوالديها مفارقة عاطفية كبرى؛ ففي حين كانت علاقتها بوالدتها علاقة شائكة وملتبسة وغير مريحة. تلك الأم التي كانت تنعت آذر بأنَّ جيناتها فاسدة لأنها موروثة من زوجها والد آذر. هذه الأم التي جاءت في سيرة نفيسي كانت امرأة متعالية على واقعها باختلاق ماضٍ رومانسي كانت أسيرته ولم تتحرر منه إلى وفاتها، ولقد أصبحت عضواً في البرلمان الإيرانيّ أيام الشاه ليس لكونها جديرة بتلك العضوية وإنما بسبب مكانة طبقتها الاجتماعية ومنصب زوجها، محافظ طهران. في حين مثّل والد نفيسي الصورة النقيض ؛ فقد كان الأب الحنون الذي يسرد لطفلته الصغيرة المدللة الحكايا المستمدة من تاريخ إيران القديم وبالأخص شاهنامة الفردوسي، وكانا يشتركان معًا(الأب والبنت) في اختلاق حكايات جديدة في كل مرة. وعندما اعتقل والدها العام 1963 عندما كان محافظًا لطهران أيام الشاه بتهم ملفقة من الرشوة وسوء إدارة الوظيفة، مرت الشابة آذر بسلسلة إخفاقات عاطفية كان أبرزها قرانها الفاشل من زوجها الأول ثم تجاوزت ذلك الإخفاق بذهابها للدراسة في كاليفورنيا ومن ثم الإلتقاء بزوجها الثاني الطالب الإيرانيّ المنتمي إلى إحدى المنظمات الثورية اليسارية الإيرانية في مرحلة ما قبل الثورة الإيرانية. وقد أنجبت منه طفلين.

في خاتمة حديثي عن هذه السيرة الذاتية الثرية أقول إنها برغم تصريح كاتبتها أنها بعيدة البعد كله عن إجراء أية مقاربة سياسية أو اجتماعية للوضع الإيراني، أقول برغم هذا كله لم تستطع آذر نفيسي أن تبتعد عن السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ الأدبيّ؛ فتواشجت تلك التعالقات المتنوعة في سيرتها واندغمت بالذاتيّ الشخصيّ. وبالتالي فإننا نجد أنفسنا بطريقة ما أمام سيرة الثورة الإيرانية ولكن من منظور مغاير جدًا. ولا أعرف لماذ تذكرني هذه السيرة الذاتية بسيرة "بجعات برية، دراما الصين في حياة نساء ثلاث" للصينية يونغ تشانغ. لعلّها سيرة الأجيال الممتدة في تأريخها الدراماتيكيّ للتحولات الكبرى في بنية المجتمعات التي تحدثت عنها!

عشيرة الكرخية: من العشائر القيسية المهمة في محافظة ديالى من بني عامر بن صعصعة من هوازن من قيس عيلان العدنانية وهذه العشيرة تحتل مكانة مهمة بين العشائرولعبت دورا بارزاً في ثورة العشرين التحررية ضد الانكليز المحتلين حين اشتركت في قلع سكة القطارفي بعقوبة بقيادة ابرز ثوارها مخيبربن مرهج الكريم الذي استطاع ان يقتل احد كبار ضباط الاحتلال في بعقوبة. وعن اصل هذه العشيرة وسبب التسمية فيقال انهم سكنوا كرخ بغداد فترة من الزمن ثم هاجروا الى ديالى فسموا الكرخية وهم اصلا من عشائر جيس بن عامر من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وهناك منهم من يقول ان جيس من بني هلال بن عامر وهم اقرب مايكونون نسبا الى عشائر الكروية والجورانية والزهيرية والكرطان والداينية والردينية وغيرها من عشائر جيس كانوا في بلاد الشام في انحاء الرها وحلب جاء بهم السلطان مراد الرابع سنة 1048هجرية الى العراق لتحرير العراق من الصفويين الذين احتلوا بغداد وقاتلوا الى جانب السلطان في انحاء خانقين وكفري وجلولاء وكذلك في بغداد ذكرهم صاحب كتاب سياحت نامة حدود سنة 1844ميلادية لمحمد خورشيد باشا في انحاء قرتبة مجاورين اخوتهم الكروية وفي رحلة اينهولت الهولندي سنة 1866ذكر لهم عشرة فرق كبيرة حوالي 720خيمة ولهم امير يتولى امرهم وذكر ان سبعة من فرقهم تسكن مهروت وثلاثة منهم يسكنون على مقربة من كوت الامارة وهذا ان دل على شئ فيدل على ان هذه العشيرة كانت فروع عديدة وكثيرة ولها اهمية انذاك .ونخوة الكرخية العامة (اولادجيس) ويراسهم قيس بن غضبان بن ابراهيم البرغش وفروعهم هي :
1-الفضول ويراسهم ادهام بن عبد محيميد
2-العرانات منهم الشيخ قيس بن غضبان
3-الكرات رئيسهم طه بن جاسم السهيل
4-الشميسات يراسهم ريسان بن ثامر المصطاف
5-الوشاحات وهم غير وشاحات العبيد ويقربون للكرات
6-السوارية رئيسهم صالح حسن الشطب
7-العمادات ويقال اصلهم من العمادية عباسيين واشك في ذلك فهم من الكرخية من قيس منهم الشيخ مخيبر مرهج الكريم
8-الجلالات بالاصل هؤلاء من بني كنانة رئيسهم حسين العلي
9-النعيمات ويقال لهم النعامنة
كتبه نساب عشائر القيسية سعيد حسين عايد الجميلي
كيف قتل عبدالكريم نصرة طعنا بالسكاكين بعد تلفيق تهمة الذوذ له؟

تناولنا العشاء وغادرنا بيت عبدالستار بحدود الساعة الثانية عشرة, على امل ان نفهم في اليوم التالي ما حدث لعبدالكريم ودعاه الى الغياب. عاد معي طلعت لأوصله في طريقي الى فندق بغداد, وصلنا الى ساحة التحرير المشهورة, واذا بها محتلة من قبل عدد من المدنيين ورجال الشرطة والجيش وقد اختلط الحابل بالنابل, وكأن هناك مسيرة او تظاهرة. حتى تلك اللحظة كنت لا أزال معروفاً واسمي متداولاً, فوقفت لأنهم لم يسمحوا للسيارة بالمرور الى ساحة التحرير, سألت اثنين او ثلاثة مدنيين وقلت لهم انا فلان, ما الخبر؟ فقالوا ألم تعلم يا سيدي؟ قلت لا, فأجابوا: الليلة سيتم اعدام مجموعة من جواسيس اسرائيل, وستعرض جثثهم في ساحة التحرير, ولذلك فالطريق الوحيد هو ان تسلك شارع ابو نواس. استغربت وقلت ما هي قصة هؤلاء الجواسيس, اما طلعت صدقي فقد اصفرّ وجهه ولم يكن مرتاحاً للعملية, وكانت لديه حركة مشهورة عندما تخطر له فكرة او كذا كان يضرب على جبينه, ففي تلك اللحظة ضرب على جبينه بيده بشكل عجيب, فقلت له ما الامر, فقال بدأت الان اقلق على صديقك. طبعاً طلعت كان امضى حياته في الاستخبارات المصرية, وفي المكتب الثاني السوري, قلت له ولماذا؟
قال قلبي يقول لي ذلك, فأنتم تقولون عن هذا الرجل انه مضبوط المواعيد, واتفقتما ان يمر عليك, فما هو الهدف من هذا التوقيت؟ فقلت له ان هذه مجرد ظنون. على كل حال اوصلته, وذهبت انا الى البيت. في صباح اليوم التالي اتصل بي احد الاصدقاء هو الضابط عزيز شهاب وهو صديق قديم لعبدالكريم نصرة وللاسرة, وقال البقية بحياتك, عبدالكريم نصرة قُتل... فقلت له اعوذ بالله هل تتكلم بصدق؟ قال نعم. لقد اتصلت بي اخته في الصباح, وانا سأمر عليك.
اخذتني المفاجأة, من الذي يريد قتله, وفوراً ربطت المسألة مع حادثة البارحة. اذاعة بغداد والتلفزيون باشرا منذ الصباح الباكر بالحديث عن اعدام ١٠ او ١٢ بينهم عدد من اليهود وجنود واصحاب مخابز, وهناك معلومات علمتها متأخراً من احد منظمي هذه العملية هو السيد علي رضا, ان هذه كانت كلها تمثيلية, وان هؤلاء كانوا معتقلين لدى عبدالرزاق النايف ايام عبدالرحمن عارف, وقيد التحقيق. استدعوهم من الاستخبارات العسكرية الى قصر النهاية, وبعد ذلك قاموا بهذه التمثيلية والغرض منها كما قال لي علي رضا الارهاب فقط.
كلّمت صديقاً او اثنين من اصدقاء عبدالكريم في وزارة الدفاع, وذهبت الى بيته. كان البيت مغلقاً, والشرطة العادية تتولى الامر, اي ليس الاستخبارات او اجهزة اخرى علماً ان الرجل شخصية بارزة من شخصيات حزب البعث وكان معتقلاً طيلة فترة عبدالسلام عارف وعبدالرحمن عارف, وعُذب وهو كان بطل محاولة الخامس من ايلول ١٩٦٤ التي القي القبض فيها على صدام, فهو كان الرقم واحد. لم نستطع ان نفهم شيئاً, ولكن عرفنا من احد افراد عائلته ان الدخول ممنوع, وان الدولة وضعت يدها على البيت وان المغدور كان مصاباً بأكثر من طعنة بالسكين.
كان هو رئيس التنظيم العسكري الذي يتبع الفرع البعثي المؤيد لسورية بعد الانشقاق, وان احمد حسن البكر وصدام, بذلا معه جهوداً كبيرة قبيل ١٧ تموز لينضم اليهما, وكان عنيداً ويرفض عروضهما, ويقول لهما "انا لا اشتغل معكما او مع عماش وغيره, انا حزبي حقيقي". شاع الخبر في بغداد. نظمنا له تشييعاً في اليوم التالي وقراءة فاتحة في جمعية الاداب الاسلامية, وجاء ممثلون عن السلك العسكري العراقي. الغريب انه اطلقت اشاعة في اليوم التالي في وزارة الدفاع وعلى عموم الحزب الرسمي ان عبدالكريم مصطفى نصرة كان رجلاً مخادعاً للحزب وللجميع وشاذاً جنسياً, وكان معه احد الصبيان عندما قتل, ويبدو ان هذا الصبي هو الذي طعنه وقتله وهرب بسيارته, لأن سيارة عبدالكريم لم تكن موجودة. طبعاً هذه عملية خسيسة, فهو كان في الجيش ولم يثر احد هذا الموضوع ولم نكن نسمع عنه هذه السمعة عندما كان في الخدمة العسكرية.
كان نصرت أحيل الى التقاعد منذ ايام عبدالسلام عارف, اي بعد عملية ٥ ايلول ١٩٦٤ اذ اعتقلوه واحالوه الى التقاعد.
وخرج الجميع من السجن قبله. عذبوه تعذيباً شديداً للبوح بأسرار التنظيم, وصمد صموداً عجيباً وغريباً, حتى انه كان يسحل, اذ يربط بسيارة جيب وتجره على طريق قناة الجيش, وكان ذلك في عهد عبدالسلام عارف, ورفض اعطاء اي كلمة, وكان صموده رمزاً لجميع البعثيين, لم يعترف مثل الآخرين كصدام الذي كشف ان الدراسة التي ضُبطت عنده وضعناها في القاهرة انا وطالب شبيب.
وماذا عن الولد؟
-  كانت اشاعة, وكنا نرد عليها بانها كذبة وافتراء. وفجأة قالوا امسكنا القاتل, وظهر على التلفزيون بعدما ضجت بغداد, بعد خمسة ايام من الحادث اذيع بيان يقول, ان القاتل اعتُقل في مدينة النجف ومعه سيارة عبدالكريم نصرة. وظهر شاب صغير, لم يتعرف عليه اي من المقربين من عبدالكريم نصرة, وادعى انه خادم نصرة, وانه قتله, ولمح الى شذوذه الجنسي, وانه كان على خلاف معه وطمع بسيارته. كان واضحاً ان الامر مرتب, واضطروا الى اعلان هذا البيان. والاذاعة السورية فتحت النار على بغداد بعدما اثارت قصة نصرة ضجة. وبقي هذا الولد معتقلاً بانتظار تقديمه الى محاكمة عادية, ثم اختفت آثاره. لم يقدم الى محاكمة ولم يُعرف شيء عن مصيره, وانقطعت اخباره الى اليوم".


طاهر يحيى التكريتي ضابط تولى رئاسة أركان الجيش بعد انقلاب ٨ شباط ١٩٦٣. شارك عبد السلام عارف في ١٨ تشرين الثاني ١٩٦٣ في السيطرة على الحكم والانقلاب على حزب البعث.أصبح رئيساً للوزراء في ٢٠ تشرين الثاني ١٩٦٣ لغاية ٣ أيلول ١٩٦٥ . أعيد تعيينه رئيساً للوزراء في ١٠ تموز ١٩٦٧ . أعتقل في تموز ١٩٦٨ بعد انقلاب ١٧ تموز ١٩٦٨ .
عنه كتب أحمد الحبوبي في كتابه "أشخاص كما عرفتهم" "اعتقل طاهر يحيي في معتقل الفضيلية في بغداد وضيق عليه في المعتقل وعومل معاملة سيئة وكان معه في المعتقل مجموعة كبيرة من السياسيين ومن اتجاهات مختلفة منهم محمد صديق شنشل وعبد الكريم فرحان،خير الدين حسيب،أديب الجادر،مالك دوهان الحسن،ود.شامل السامرائي وآخرون...وينقل الدكتور رحيم الكبيسي الذي كان معه في المعتقل ان طاهر يحيي غضب غضبا شديدا عندما بلغه ان أهله أو عائلته تتوسط له عند البكر...
وعند أول مقابله له مع زوجته منعها من الاتصال بالبكر أو بغيره للتوسط له من اجل إطلاق سراحه أو التخفيف عنه...كما ذكر الكبيسي ان طاهر يحيي نقل لهم نبوءة عبد السلام عارف من انه سيأتي يوم يعتقلهم البكر ويضعهم في السجن وذلك عندما ذهب طاهر يحيي وبعض الضباط إلى عبد السلام عارف للتوسط من اجل إطلاق احمد حسن البكر عندما اعتقل بعد فشل المحاولة الانقلابية التي قام بها البعث في ٥/٩/١٩٦٤..ويقول طاهر يحيي وفعلا هذا هو اليوم الذي تنبأ به عبد السلام عارف...
واتعب الانقلابيون أنفسهم من اجل الحصول على أدلة تدين طاهر يحيي بالفساد أو الرشوة ولم يوفقوا...فقد اعتقلوا(عبد الواحد زكي)المدير المفوض لشركة الكوكا كولا وراحوا يعذبونه من اجل ان يقر ويعترف بأنه رشا طاهر يحيي من اجل تمشية معاملات الكوكا كولا ولم يعترف الرجل لأنه فعلا لم يدفع رشوة لطاهر يحيي حتى مات تحت التعذيب...ثم نقل طاهر يحيي إلى معتقل قصر النهاية وهناك كانوا يعقدون جلسات للتسلية على المعتقلين ويتفننون في استعمال الوسائل من اجل التسلية...ولم يسلم طاهر يحيي من جلسات الأنس هذه فكان يؤتي به ويربط حوله وسطه حزام ليبدو وكأنه راقصة ويطلبون منه الرقص...ثم كلفوه بتنظيف المراحيض زيادة في الإهانة والإذلال وقد احتمل كثيرا وصبر وقضى وقتا طويلا في قصر النهاية وساءت صحته وزادت شكواه من مرض عينيه حتى كاد يفقد بصره...
وأطلق سراحه فاعتكف بداره لا يبرحها وكانت المراقبة على داره شديدة وعندما تضطره الضرورة للخروج تتبعه سيارة إلى حيث يذهب وتحصي عليه تحركاته وسكناته ولم يزره احد من أصدقائه أو معارفه عدا بعض أقربائه واخذ بصره يضعف وأراد ان يعالج عينيه خارج العراق فمنع من السفر فعلق على المنع بقوله:سبحان الله حتى(الشراميط)تسافر إلى خارج العراق وأنا ممنوع من السفر من اجل العلاج...وانطوي يكابد علته الجسدية والنفسية حتى فارق الحياة رحمه الله..."
عندما افتتحت مدينة الالعاب في الرصافة شكلت ظاهرة جديدة لم يراها الناس سابقا اذ كانت تفتح ابوابها طيلة ايام السنة وليس كما تعودوا ان تنصب الالعاب في ايام الاعياد فقط لترفع بعدها ، وكذلك فان الالعاب التي في هذه المدينة كانت على مستوى عالي وجديد ايضا لم يعرفه الناس من قبل ، اذا كانت العاب الاعياد التي اعتاد الناس عليها لا تتجاوز دولاب الهواء الخشبي او الحديدي الذي لا يتجاوز ارتفاعه الثلاثة الى اربعة امتار ويدار يدويا من قبل عامله اما دولاب هواء المدينة الجديدة فكان بارتفاع شاهق ربما ترى من فوقه مسافات بعيدة تتجاوز مساحة مدينة الالعاب ويدار كهربائيا بمجرد كبسة زر ، وكذلك كانت هناك مراجيح كبيرة تدور بركابها وتأرجحهم غير تلك المراجيح القديمة التي كانت تعمل من جذوع النخيل حيث ينصب جذعي نخيل عموديا ويربط بينهما حبلا يتدلى وفي منتصفه مقعد مصنوع من ليف النخيل ( كما تصنع التبلية التي يتسلق بها في صعود النخيل) ، ويهزالراكب في هذه الارجوحة يدويا بقوة دفع العامل عليه ليحلق راكبها عاليا بدون اي شروط امان لذلك كان يعتليها فقط الصبيان الجريئين ، وكذلك كان في هذه المدينه الجديدة قطار صغير يسير على سكة يركبه الاطفال وعوائلهم ليدور بهم في ارجاء المدينة بين الخضرة والماء ، وفيها ايضا عبّارة كبيرة ترتادها العوائل والصغاروالشباب لتمخر بهم عباب بحيرة جميلة انشأت مدينة الالعاب على حافتها ( البحيرة كانت مقلعا لكور صنع الطابوق تتجمع فيها المياه وتم تجديد مياهها وتشذيب حافاتها ) ، ومن ثم بعدها اضيفت لعبة جديدة كانت تستفز الشباب من الجنسين ليرتادوها تنفيسا عن روح المغامرة لديهم تلك هي لعبة الصحن الطائر الذي كان عبارة عن صحنا دائريا يدور بشكل متسارع ليصل الى سرعته النهائية وهو يتخذ وضعا مائلا او عموديا حيث تتصاعد صرخات الشابات والشباب اما خوفا او استهزاءا باللذين يصرخون خوفا او صار تقليدا متعارف عليه ، وكان البعض ينظر الى هذه اللعبة على انها اختبار للتحمل ، كما انشأت بعدها سكة الموت حيث تندفع مركبات بسرعة عالية صعودا الى ارتفاعات عالية وهبوط سريع منها يجعل الجميع يشهق منها ، كل هذه الالعاب وغيرها ممن هي لصغار الاطفال كانت تستخدم لقاء مبالغ قليلة كان باستطاعتنا توفيرها خلال الاعياد من العيديات التي كنا نحصل عليها من اهالينا واقاربنا لنذهب وننفقها على هذه الالعاب وربما كان الاهل يصحبونا في احد ايام العيد ليقضوا نهارا كاملا في هذه المدينة يتمتعون بحدائقها ويمتعون اطفالهم بالعابها ، فعلا كانت المتنفس الاول لاهالي بغداد والاولى من نوعها في العراق وربما الشرق الاوسط في تلك الفترة من اواسط الستينات .
في ستينات القرن الماضي (1964-1966) كان المرحوم طاهر يحيى رئيس الوزراء وفي أمسية من أيام ذلك العام كان يتجول سيرا على الأقدام في شارع الرشيد حتى وصل "ساحة الميدان"،وهنا صعد إحدى باصات مصلحة نقل الركاب "الأمانة" ، كأي راكب عادي، وعندما سارت السيارة صعد ثلاثة أشخاص، ودفع كل منهم أجرة (15 فلسا) ولكن قاطع التذاكر "الجابي" قطع لهم التذاكر من الدفتر لكن لم يسلمها لهم بل أخفاها لنزولهم في المحطة التالية...

وبعد فترة صعد ثلاثة أشخاص ودفعوا الأجرة للجابي فأعطاهم التذاكر الثلاثة المخفية لديه، كل هذا جرى و(دولة) رئيس الوزراء يراقب كل ما جرى أمام عينيه!!
وهنا نادى رئيس الوزراء على الجابي وقال له:

لماذا فعلت هذا العمل؟
فتغافل الجابي وأجاب:

عن ماذا تتحدث؟
قال له: وهل تعرفني؟
أجابه الجابي: لا....
قال: أنا طاهر يحيى رئيس الوزراء...
وهنا تلعثم الجابي وأرتبك وأخذ يتوسل مدعيا بأنه صاحب عائلة كبيرة، ولكن رئيس الوزراء طلب منه دفتر التذاكر وقطع منه أربعة بطاقات ومزقها أمامه!! (وهي بقيمة 60 فلسا أي غرّمه 60 فلسا).

وقال له رئيس الوزراء: 
سوف أحيلك إلى المحكمة عن جريمة إختلاس...!!.
وبقي الجابي يبكي ويتوسل..
وهنا تدخل بعض الناس ممن كانوا راكبين بالباص ملتمسين (دولة) رئيس الوزراء الصفح عنه..

وإستجاب طاهر يحيى رئيس الوزراء لتوسطهم، ورجائهم، وطلب من الجابي أن يكون أميناً ويحافظ على الأمانة التي أوكلت إليه، ثم مدّ رئيس الوزراء يده في جيبه، وأخرج خمسة دنانير من محفظته وسلمها للجابي.. وقال له:
إصرفها على عائلتك ولا تكرر فعلتك!!
ونزل رئيس الوزراء في المحطة القادمة مترجلا ليكمل سيره وجولته الحرة، وسط تحية الناس له وإعجابهم بتواضعه وإنسانيته..
رحم الله زمانا كان الرجال فيه كثيرون..

ورحم الله طاهر يحيى الرجل الذي تسلم عدة مسؤوليات وأثار خصومه لغطا ضده.. ولكنه كان (طاهرا) فعلا وحقا إسما على مسمى,, وبقيت أعماله شاهدة على نظافة ونزاهة وعفة أطهر رئيس وزراء عراقي طاهر يحيى التكريتي يرحمه الله..
فليأتونا بمثل هذا الرجل في هذا الزمن الردئ الذي يستلم الوزراء والمحسوبون ملايين الدنانير، ومع ذلك لايعرفون للعفة والطهارة معنى... فليرحمك الله يا طاهر وليرحم الله من أحسن إختيارك وتعيينك..

قصة طريفة أخرى تروى عن المرحوم طاهر يحيى على ذمة راويها:
قيل انه كان يتجول في احدى الليالي لوحده، فأوقف سيارته امام محل (كببچي) وكان طاهر يحيى يلبس (الدشداشة) وهبط وطلب (تكه وكباب) وبينما هو ينتظر أخذ يتحدث مع (الكببچي) سائلا إياه: 

(شلون الشغل أبو فلان)؟؟؟.
فأجابه (الكببچي) دون ان يعرف من هو (ضيفه):
(الحمد لله، لكن إشخلّة علينة أبو فرهود.!!، أشو أدك ليل نهار وما جايب الراس على الراس!)
فقال له (طاهر يحيى):

زين وشنو دخل أبو فرهود بشغلك !!؟؟..
فقال له (الكببچي):

(عمي الله يخليك، من أبو فرهود يبوگ من فوگ، ويشتري سينما النصر ومدينة الألعاب، يگوم اللي وياه يفرهدون، حتى توصل لبائع الخرفان !! فأگوم آني ازيّد السعر على الزبون، لأن هي سمچه وخايسه من راسها!!
وحين هَمّ (طاهر يحيى) للأنصراف، سأل (الكببچي):

شكد حسابك؟؟؟.
أجابه (الكببچي):

(عمّي خليها على حسابي)!!!.
فرد عليه (طاهر يحيى):

(لا شلون وبعدين تگول طاهر يحيى باگني!!)..
وحينها انتبه (الكببچي) الى انه يكلم (رئيس الوزراء) بحق وحقيق فتلعثم وقال له:

(لا سيدي سامحني آني ما اقصدك, لكن الناس الله لا ينطيهم همة اللي يحچون!!)....
فردّ عليه طاهر يحيى بعد أن وضع خمسة دنانير على ميز الدخل: (عراقيين ما تصير إلكم چاره!!)
وتحرك بسيارته.. مكملا جولته دون مرافق ولا أرتال حماية.....! لأن عدالته كانت تحميه.!


طاهر يحيى بين اعتقال عبدالكريم قاسم له!
في زمن عبدالكريم قاسم اعتقلت أجهزة الاستخبارات العسكرية اللواء طاهر يحيى بوشاية وبعد مضي أيام على الحَدَث، وبشكل مفاجىء توقفت سيارة أمام بابِ بيتِ عائلةِ السَجين في حي دراغ، وترجل منها عبدالكريم قاسم بمفردِه.

طرَقَ البابَ بهدوء فظهرت أمُّ غسان – زوجة طاهر يحيى– وهي مذهولة ظنا منها أن كارثة أخرى ستحل بها عندما رأت الزعيم على الباب، لكنَّ ظنّها تلاشى بابتسامةٍ أشرقت على مُحيّاه وهو يؤدي التحية ويدور الى خلف سيارتهِ، فأنزل بضاعَتهُ المتكونه من كل ما يحتاجه المطبخ العائلي من تموين. ووضعها أمام البيت وعاد مرة أخرى الى سيارتِه فأنزل منها دراجة هوائية صغيرة للطفل غسان – ابن المرحوم طاهر يحيى- وطمأنها مرة أخرى على صحة (أبو غسان) ، وأوعدَها خيرا باطلاق سراحه بعد أيام، وفعلا حصل!!


وإنتهت القصة ولم تنتهك كرامة هذا الرجل المعتقل الذي صارَ هرًما عظيما بشموخهِ الذي فضح بهِ أقزاما من أعدائهِ وأعداء العراق والأمة. بهذه الطريقة أُعتُقِلَ اللواءُ طاهر يحي التكريتي، وبها أُطلِقَ سراحُه....

*

طاهر يحيى ناله من الاذى الكثير والكثير من اعدائه !!
والسبب الرئيسي في كرههم لطاهر يحيى هو توجهه القومي العروبي وحبه للعراق واهله النجباء، فقد اطلقوا ضده الشائعات التي تنال من نزاهته واتهموه بتملك شركة الكوكاكولا ومدينة الالعاب وبعض دور السينما ونعتوه بشتى النعوت التي لا تخرج الا من افواه عفنة امتهنت العمالة والانبطاح وكان كل ناعق منهم يملك لسان شيطان رجيم يوجهه سمومه ضد هذا الرجل الذي اثبتت الاعوام فيما بعد، براءته من كل التهم والشائعات التي اطلقت ضده بعد ان استلم السلطة حزب البعث في السابع عشر من تموز عام 1968..


توفي الرجل في العام 1986 ولم يكن يملك الا داره الكائنة في حي دراغ وراتبه التقاعدي..... رحم الله طاهر يحيى ..