في العام 1955 نشر الروائيّ الأمريكيّ من أصل روسي فلاديمير نابوكوف(1899_1977)
رائعته الأدبية"لوليتا"، والمفارقة تكمن في كون هذا العمل المدهش مُنِعَ أول الأمر من التداول في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد ثلاث سنوات حققت مبيعاته أرقامًا قياسية، وأصبحت الرواية من أشهر روايات كتب الجيب الأمريكية، وباع المؤلف حقوق تحويلها إلى فيلم سينمائيّ هوليوديّ. وفي العام 2003 نشرت الكاتبة والأستاذة الأكاديميّة الإيرانيّة آذر نفيسي سيرتها الذاتيّة أولاً في كتاب أسمته"أن تقرأ لوليتا في طهران" وجعلته تحت اسم"رواية". ونفيسي هي أستاذة الأدب الإنكليزي الزائرة في جامعة جون هوبكنز في الولايات المتحدة الأمريكيّة(تحمل لقب بروفيسور) ومديرة(مشروع الحوار) في معهد السياسة الخارجيّة والأستاذة سابقًا في جامعتي طهران والجامعة الإسلاميّة الحرة والعلاّمة الطباطبائيّ. وفي سنة 1981 فُصِلَت من جامعة طهران بعد رفضها ارتداء الحجاب، وفي سنة 1994 حصلت على منحة دراسية من جامعة أوكسفورد ثم في سنة 1997 غادرت هي وأفراد أسرتها إيران متجهة إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة. وهي تكتب في الصحف الأمريكية مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال ونيو ريببلك.
كتبت آذر نفيسيّ سيرتها الذاتية مرتين، الأولى كانت تحت إسم رواية وعنونت كتابها "أن تقرأ لوليتا في طهران" والثانية كانت سيرتها الذاتية "أشياء كنت ساكتة عنها". .ترى ماالجامع بين العملين؟ وهل ثمة تشابه بين نابوكوف الروسيّ وآذر نفيسي الإيرانيّة؟ ومن هي لوليتا التي كُتِبَت عنها رواية وضُمِنَت حياتها في سيرة ذاتية روائية؟ وماعلاقتها بالكاتبة؟ وماعلاقتها بطهران؟
إختارت آذر نفيسيّ رواية "لوليتا"لنابوكوف عنوانًا لعملها. والرواية باختصار تتحدث عن قصة طفلة صغيرة في الثانية عشرة من العمر عنيدة شرسة الطباع. وبعد وفاة والدها يغتصبها رجل عجوز اسمه هومبرت مستغلاً نزقها وطيشها ورغبتها في الاختلاف، ويسيطر على حياتها سيطرة شاملة قامعة محيلاً إياها إلى آلة صماء مُسخ لاماضٍ لها ولاحاضر ولامستقبل إلا مايكتبه هذا العجوز الذي امتلك تاريخها وأخذ يصوغه كيفما شاء إلى حد إقناعها بأنها هي المذنبة ومرتكبة الخطايا وليس هو! تقول آذر نفيسي عن لوليتا نابوكوف" إذا فكرتُ بانتقاء عمل أدبيّ يعكس واقعنا في الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة، فإنَّ هذا العمل لن يكون بأي حال "ربيع الآنسة جين برودي" ولاحتى"1984" ربّما يكون"دعوة لضرب العنق" لنابوكوف أو إنني أجد أقرب الأعمال حتى الآن هو "لوليتا". "لقد كان على هومبرت لكي يعيد ابتداع لوليتا أن يأخذ منها تاريخها الحقيقي ليضع مكانه التاريخ الذي يريد، ونحن لانتعرف إلى لوليتا إلا عن طريق هومبرت ولا نتعرف إليها عبر ماضيها، وإنما عبر ماضٍ خيالي مفترض يبتدعه الراوي الذي يقحم نفسه في حياتها.وهذا هو بالضبط ما أطلق عليه بعض النقاد نظرية الأنا عند "هومبرت".
تنتمي نفيسي إلى جيل إيراني عاش مرحلتين؛ ماقبل الثورة في عهد إيران الشاهنشاهيّة ومابعدها في عهد إيران الخمينيّة التي شهدت فيها إيران تحولات كبرى سياسيّة واقتصادية واجتماعيّة وثقافيّة، من نظامٍ ليبراليّ علمانيّ إلى نظام دينيّ متشدّد تحكمه ولاية الفقيه. وبالتالي يكتسب هذا الكتاب أهميته بوصفه سيرة ذاتية فكرية نسوية لامرأة عاشت طفولتها في إيران ثم في مدرسة داخلية في بريطانيا ثم سويسرا؛ إذ كان والدها محافظ إيران أيام الشاه. وهي تتحدر من عائلة إيرانية عريقة وميسورة تعود في أصولها إلى سلالة ملوك القاجار، واكتسبت هذه العائلة اسمها من جدها الأعلى الطبيب "ابن النفيس". وفجأة تُجبر نفيسي على القدوم إلى إيران بعد اعتقال والدها ثم تغادر لإكمال دراساتها العليا إلى بريطانيا وأمريكا وتشارك في الخلايا الثورية الماركسية لطلاب إيران في أمريكا ممن يريدون الإطاحة بحكم الشاه. عادت نفيسي إلى إيران بعد الثورة وتحديدا إلى طهران، وقضت عقدًا من الزمن هناك (1987_1997) فاصطدمت بقوانين الثورة الجديدة ورقابتها للمفكرين والمثقفين والأكاديميين وبمحاكم التفتيش التي تصادر الأدب الذي لايتفق مع منظورها الإيديولوجي، بما في ذلك إحكام الرقابة على روائع الأدب العالميّ والأفلام السينمائية وإخضاعها للبتر بمقص الرقيب. وبعد ما لقيت مضايقات كثيرة في الجامعة تستقيل وتغادر عائدة إلى أمريكا. تتحدث نفيسي عن صديقتها الرسّامة التي ابتدأت عملها بتجسيد مشاهد من الحياة اليومية وانتهى بها الأمر إلى التجريد والاكتفاء في لوحاتها ببقع متناثرة من الألوان الصارخة! تقول الرسّامة لنفيسي:" لقد أصبحنا نعيش واقعاً لايُطاق، واقعاً أسود قاتمًا إلى حد أنني لن أستطيع بعد الآن إلا أن أجسد لون أحلامي".
كان نابوكوف في التاسعة عشرة من عمره حينما قامت الثورة الروسيّة(البلشفيّة) العام 1917، ولم يسمح لنفسه بأن يتأثر بأزيز الرصاص ومناظر القتل والدماء، وواصل كتابة قصائده الصوفيّة والانغماس في عالمه الأدبيّ. وقدّم بعد سنوات مسرحية"رجل سوفييتيّ" انتقد فيها قمع الحكم الثوري(التوليتاري) للشعب الروسي.ّ تقوم نفيسي بجمع سبعة من أفضل طالباتها في مقرر الأدب الإنكليزيّ وتدعوهن لزيارتها في منزلها صبيحة كل خميس في ورشة عمل دراسية لمناقشة بعض الأعمال الأدبيّة العالميّة. و تكونت المجموعة الطالبيّة النسوية المختارة من أمزجة متباينة لشخصيات تنتمي إلى بيئات تتراوح بين الإنغلاق و الإنفتاح ومن التشدد إلى الإنفلات. ولم تلتفت نفيسي إلى تباين خلفياتهن الإيديولوجيّة أو الدينيّة، وكان المهم لديها هو عشقهن للأدب في تمثيله للحياة الإنسانيّة بكافة تعقيداتها . كانت أعمال نابوكوف وفي مقدّمها رواية"لوليتا" العمل المحوريّ الذي ركزت عليه تلك المناقشات؛ لأنَّ نفيسي أصبحت ترى نفسها وترى إيران في لوليتا فهي أدركت التشابه القائم بينهما؛ فلوليتا فقدت تاريخها وأصبحت لعبة يتحكم بها العجوز هومبرت وإيران بشراستها وجموحها تحولت إلى تابع يتحكم الملالي به وبكتابة تاريخه وامتلاكه! تقول نفيسي:"نجد أنَّ ماضي إيران الحقيقيّ قد أصبح أمرًا ثانويًا لإولئك الذين استحوذوا عليه، تمامًا مثلما أصبح ماضي "لوليتا" الحقيقيّ ثانويًا بالنسبة لهومبرت الذي غيّر اسمها الحقيقيّ من دولورس إلى لو ولولا ولوليتا".
أفصحت نفيسي في سيرتها الذاتية "أشياء كنت ساكتة عنها" عن التحولات الشخصيّة الكبرى التي مرت بها الساردة إلى جانب انكساراتها وانطلاقاتها بعد الهزائم التي مُنيت بها. وربّما كان لكتابة هذه السيرة الذاتيّة باللغة الإنجليزية ما مكّن الكاتبة من التحرر من قيود لغتها الأصلية وإيجاد مساحة كبيرة لها للحديث بحرية عن مناطق محظورة ومسكوت عنها متعلقة بالدين والسياسة والجنس. تعترف نفيسي أنها وُلِدَتْ في أسرة مولعة بسرد القصص، فلوالدها سيرة ذاتية مكتوبة منشورة اقتصرت على سرد تاريخ إيران الحديث بعد أن حذف منها السرد الشخصيّ وسيرة أخرى مشوقة حافلة بكل التفاصيل المثيرة بما في ذلك علاقة والدها بنساء أخريات، وهي سيرة غير مكتوبة وبقيت حبيسة الأوراق. تقول نفيسي" كنا كأسرة مولعين بسرد القصص. ترك أبي وراءه سيرة ذاتية منشورة، وسيرة ذاتية أخرى غير منشورة أكثر إمتاعًا، وما يزيد على ألف وخمسمائة صفحة من اليوميات". وإلى جانب والدها كانت هناك والدتها الجميلة التي تختلق الحكايات عن طفولتها وشبابها فأوجدت لنفسها سيرة ذاتية مختلقة لجأت إليها للهروب من واقعها والتحسر على حياتها مع زوجها الأول"سيفو" الذي كانت تقارنه بالزوج الثاني"والد نفيسي" وكانت المقارنة تنتهي دائمًا إلى ترجيح كفة الأول. تقول نفيسي:"طوال سني حياتنا أنا وأخي كانت تتملكنا القصص الخياليّة التي يرويها لنا أبوانا_قصص خياليّة عن نفسيهما وعن الآخرين على السواء. كل واحدٍ منهما يريدنا أن نحكم على الآخر في صالحه أو صالحهما. في بعض الأحيان كنت أشعر أنني مخدوعة، كما لو أنهما لم يسمحا لنا بأن تكون لنا قصصنا الخاصة. الآن فهمتُ كم كانت قصتهما هي قصتي أيضًا".
تمتد سيرة نفيسي الذاتيّة لتتناول تاريخ إيران بدءاً من ولادة جدتها أوائل القرن العشرين إلى ولادة ابنة آذر في نهاية القرن العشرين، وقد سمح لها هذا الامتداد الزمنيّ بتتبع سير الأشخاص في تعالقها مع السياسيّ والثقافيّ والدينيّ في سيرة ذاتية كانت أبرز سماتها الصدق والصراحة والوضوح في التعبير عن مواطن الصمت التي قد لانجرؤ أحيانًا على البوح بها على رغم إشارة نفيسي المتكررة في الكتاب إلى أنَّ سيرتها ليست مقاربة سياسيّة ولا حتى اجتماعيّة.
تقول نفيسي: "لا أقصد أن يكون هذا الكتاب تعليقًا سياسيًا أو اجتماعيًا، أو قصة حياة نافعة. أود أن أحكي قصة أسرة تتكشف إزاء خلفية عهد مضطرب من تاريخ إيران السياسيّ والثقافيّ. ثمة قصص كثيرة عن هذه الأزمنة، بين ولادة جدتي في بداية القرن العشرين وولادة إبنتي في نهايته؛ هذه الأزمنة التي وسمتها ثورتان أعطتا إيران شكلاً معينًا، وأحدثتا انقسامات وتناقضات كثيرة بحيث أصبح الاضطراب المؤقت هو الشيء الوحيد الدائم". أفصحت آذر نفيسي في سيرتها الذاتية: "أشياء كنت ساكتة عنها" عن التحولات الشخصيّة الكبرى التي مرتْ بها الساردة إلى جانب انكساراتها وانطلاقاتها بعد الهزائم التي مُنيت بها. وربّما كان لكتابة هذه السيرة الذاتيّة باللغة الإنجليزية ما مكّن الكاتبة من التحرر من قيود لغتها الأصلية وإيجاد مساحة كبيرة لها للحديث بحرية عن مناطقَ محظورة ومسكوت عنها متعلقة بالدين والسياسة والجنس. تعترف نفيسي أنها وُلِدَتْ في أسرة مولعة بسرد القصص؛ فلوالدها سيرة ذاتية مكتوبة منشورة اقتصرت على سرد تاريخ إيران الحديث بعد أن حذف منها السرد الشخصيّ وسيرة أخرى مشوقة حافلة بكل التفاصيل المثيرة بما في ذلك علاقة والدها بنساء أخريات وهي سيرة غير مكتوبة وبقيت حبيسة الأوراق. تقول نفيسي" كنا كأسرة مولعين بسرد القصص. ترك أبي وراءه سيرة ذاتية منشورة، وسيرة ذاتية أخرى غير منشورة أكثر إمتاعًا، وما يزيد على ألف وخمسمائة صفحة من اليوميات". وإلى جانب والدها كانت هناك والدتها الجميلة"نزهت نفيسي" التي كانت تختلق الحكايات عن طفولتها وشبابها؛ فأوجدت لنفسها سيرة ذاتية مختلقة لجأت إليها للهروب من واقعها والتحسر على حياتها مع زوجها الأول"سيفو" الذي كانت تقارنه بالزوج الثاني"والد نفيسيّ" وكانت المقارنة تنتهي دائمًا إلى ترجيح كفة الأول. تقول نفيسيّ"طوال سني حياتنا أنا وأخي كانت تتملكنا القصص الخياليّة التي يرويها لنا أبوانا_قصص خياليّة عن نفسيهما وعن الآخرين على السواء. كل واحدٍ منهما يريدنا أن نحكم على الآخر في صالحه أو صالحهما. في بعض الأحيان كنت أشعر أنني مخدوعة، كما لو أنهما لم يسمحا لنا بأن تكون لنا قصصنا الخاصة. الآن فهمتُ كم كانت قصتهما هي قصتي أيضًا".
يمتدُ زمن هذه السيرة في سردها لحكايا العائلة ليمثل تاريخ إيران الحديثة منذ بداية القرن العشرين إلى أواخره؛ كانت البدايات زمن الثورة الدستورية الإيرانيّة (1905_1911) التي أحدثت انقلابًا صادمًا للمجتمع الإيرانيّ المحافظ مما سمح بوجود تأثيرات غربية واضحة في بنية هذا المجتمع. لقد التحقت والدة آذر بمدرسة فرنسيّة ولم تكن ترتدي الحجاب والتقت بزوجها الأول وهما يرقصان في حفلة زواج. وتشير سيرة نفيسيّ كذلك إلى مرسوم رضا شاه بهلوي سنة 1936 بجعل كشف النقاب عن وجوه النسوة إجباريًا مما أدى إلى معارضة كبيرة من الإيرانيين لهذا المرسوم، وفي النهاية أُلغي سنة 1941 لصعوبة تطبيقه على مجتمع لايزال محافظًا في بعض طبقاته، ويعاني من ازدواجية كبرى بين العلمنة والدين.
لقد عاصرت نفيسيّ تلك الازدواجية الكبرى بين العلمنة والدين في إيران خصوصًا في سنوات نشأتها الأولى في الخمسينات والستينات؛ لقد درست في مدارس أجنبية، وعاشت طفولةً على النمط الغربيّ، وعاشت مراهقة بعيدًا عن بلدها في بريطانيا أولاً ثم سويسرا ثم دراستها في الولايات المتحدة الأمريكية وعودتها إلى إيران بالتزامن مع اندلاع الثورة الإيرانيّة، وبالتالي تأتي مفارقة كبرى تحدثت عنها الكاتبة في سيرتها هي أنَّ ابنتها أُجبِرَتْ على ارتداء الحجاب في المرحلة الأولى من دراستها الابتدائيّة؛ وهذا يعني عودة القوانين ذاتها التي سادت إيران خلال عمر جدة آذر. وبالتالي تمتلأ هذه السيرة بالتقاطعات بين الشأن الخاص والشأن العام؛ ولذلك تصرح الكاتبة قائلة"نقاط التقاطعات تلك بين ماهو خاص وعام هي ماتطلعتُ إليه حينما بدأتُ بتدوين كتابي الأول، في إيران، الذي يتناول فلاديمير ناباكوف. أردتُ أن أناقش روايات ناباكوف في ضوء الأزمنة المختلفة التي قرأتها فيها. كان ذلك مستحيلاً، ليس فقط لأنني لم أستطع صراحة الكتابة عن الحقائق السياسية والاجتماعية للحياة في الجمهورية الإسلاميّة في إيران، بل أيضًا لأنَّ التجارب الفردية والشخصيّة كانت تتعامل معها الدولة بوصفها أشياء محرمة. في هذا الوقت تقريبًا بدأتُ بوضع لائحة في يومياتي حملت عنوان"أشياء كنت ساكتة عنها"، تحت هذا العنوان كتبتُ"الوقوع في الحب في طهران. الذهاب إلى الحفلات في طهران، مشاهدة أفلام الإخوة ماركس، أن تقرأ لوليتا في طهران".كتبتُ عن القوانين القمعية والإعدامات، وعن المكاره العامة والسياسية. وفي الختام انجرفتُ للكتابة عن إفشاء الأسرار الخاصة، مورطةً نفسي وأولئك المقربين مني بطرائقَ لم أتخيلها قط".
إنَّ سرديات الصمت عند نفيسي متنوعة ولا تنحصرُ في نمطٍ واحدٍ بعينه؛ إذ تتراوح هذه السرديات من الصمت والسكوت السياسيّ إلى الصمت الشخصيّ. إنَّ أكثر أنواع السرديات شيوعًا _كما ترى نفيسيّ_ هو ذلك السرد المتعلق بالآباء الراحلين لملء الفجوة التي خلقها رحيلهم. ولذلك تصدر نفيسيّ سيرتها بالجزء الأول المعنون"قصص الأسرة الخيالية"، وبدأته بالحديث عن طاقات الاختلاق السردية التي كانت تمتازُ بها والدتها سليلة ملوك القاجار التي نجحتْ في اختلاق سيرة ذاتية رومانسية شخصية لها تتعالى بها على واقعها الحقيقيّ، وتحتفي"نزهت" سيرة الأم المختلقة تلك بسرديات الماضي المختلق أيضًا! في حين كان والد نفيسيّ"أحمد" يساعد طفلته الصغيرة"آذر" على اختراع الحكايا وطقوس السرد فتتماهى آذر مع شخصية "رودبه" في شاهنامة الفردوسيّ، وستظل هذه الشخصية لصيقةً بها لمدة سنوات طويلة بعد ذلك. ولقد قادت طاقات الاختلاق السردية تلك الطفلة الصغيرة آذر إلى احتراف الكذب وخاصة الكذب على والدتها بشأن علاقات والدها النسائية المتعددة؛ فقد كانت الصغيرة آذر متواطئة مع والدها في إخفاء تلك الغراميات عن والدتها، كما كانت ترافق والدها في مواعيده الغرامية تلك!
تتحدث نفيسي عن إيران الخمسينات والستينات حيث قضت طفولتها وجزءًا من مراهقتها المبكرة، وتتزيا تلك الطفولة بزيّ غربيّ محض؛ إذ تذكر نفيسي: " يبدو أنني أمضيت معظم سنوات طفولتي في شارع نادري وفي شبكة من الشوارع الجانبية التي تفرعت منه. هنالك مخزن الكعك المحلّى والمكان المخصص للجوز والتوابل، سوق السمك. مخزن العطور المدعو "جيلا" حيث اعتادت أمي أن تبتاع عطر نينا ريتشي، وقد كان صاحب المخزن يحتفظ دومًا بعينات قليلة مجانية لي. والمقهى الذي يحمل اسمًا أجنبيًا حيث تشتري أمي أنواع الشوكلاته خاصتها، من بين كل الروائح والأشذاء الخاصة بذلك الشارع الساحر، ما بقي مطبوعًا في ذاكرتي هي الروائح المتعلقة بالشوكلاته، التي كنا نلفظها كالكلمة الفرنسية شوكولا chocolat". وفي شارع نادري تزدحم مقاهٍ تتجاور فيها الموسيقى الفارسية مع الموسيقى العربية، و كانت الطفلة "آذر" ترتاد في طفولتها المبكرة إحدى الصالات في ذلك الشارع لتعلم رقص الباليه.
تحدثت نفيسي في سيرتها عن الأقليات من الأرمن واليهود والآذريين والبهائيين، وكان جلّ هؤلاء من أصحاب المخازن. تقول نفيسي: "مثلما كان شيئًا طبيعيًا أن يشتري المرء الحلويات والمرطبات من أصحاب المخازن الأرمن، أو أن يشتري الأقمشة والعطور من مخازن اليهود، كان من الطبيعي أيضًا بالنسبة لبعض العوائل أن تجتنب الأقليات لأنهم غير نظيفين". كان الأطفال يدقون أبوابهم منشدين :"الأرمنيّ، الكلب الأرمنيّ، كناس الجحيم". "اليهود لم يكونوا قذرين فحسب، بل إنهم شربوا دم لأطفال الأبرياء. كان الزرادشتيون عبدة النار وملحدين، بينما لم يكن البهائيون، وهم طائفة إسلامية انفصالية، مهرطقين فقط بل عملاء وجواسيس للبريطانيين وبالإمكان بل من الواجب قتلهم".
وهكذا تعامل ذلك المجتمع الطبقيّ الإيرانيّ مع تلك الأقليات تعاملاً فيه قدر كبير من الازدراء الثقافيّ للآخر المختلف عرقيًا ودينيًا. واشتملت السيرة على مواضع تحدثت فيها نفيسي عن ملحمة الشاهنامة للفردوسيّ وعن مجيء العرب الغزاة الذين دمروا الحضارة الفارسية العريقة؛ وهذا أيضًا تنميط ثقافي عنصري للغاية وقعت فيه نفيسي مع كونها باحثة أكاديمية كان لابد لها من تحري الموضوعية فيما تكتب، ولكنه الانبهار المطلق بعظمة الحضارة الفارسية هو الذي قادها إلى مثل هذا العماء الثقافي!
تمثل علاقة آذر بوالديها مفارقة عاطفية كبرى؛ ففي حين كانت علاقتها بوالدتها علاقة شائكة وملتبسة وغير مريحة. تلك الأم التي كانت تنعت آذر بأنَّ جيناتها فاسدة لأنها موروثة من زوجها والد آذر. هذه الأم التي جاءت في سيرة نفيسي كانت امرأة متعالية على واقعها باختلاق ماضٍ رومانسي كانت أسيرته ولم تتحرر منه إلى وفاتها، ولقد أصبحت عضواً في البرلمان الإيرانيّ أيام الشاه ليس لكونها جديرة بتلك العضوية وإنما بسبب مكانة طبقتها الاجتماعية ومنصب زوجها، محافظ طهران. في حين مثّل والد نفيسي الصورة النقيض ؛ فقد كان الأب الحنون الذي يسرد لطفلته الصغيرة المدللة الحكايا المستمدة من تاريخ إيران القديم وبالأخص شاهنامة الفردوسي، وكانا يشتركان معًا(الأب والبنت) في اختلاق حكايات جديدة في كل مرة. وعندما اعتقل والدها العام 1963 عندما كان محافظًا لطهران أيام الشاه بتهم ملفقة من الرشوة وسوء إدارة الوظيفة، مرت الشابة آذر بسلسلة إخفاقات عاطفية كان أبرزها قرانها الفاشل من زوجها الأول ثم تجاوزت ذلك الإخفاق بذهابها للدراسة في كاليفورنيا ومن ثم الإلتقاء بزوجها الثاني الطالب الإيرانيّ المنتمي إلى إحدى المنظمات الثورية اليسارية الإيرانية في مرحلة ما قبل الثورة الإيرانية. وقد أنجبت منه طفلين.
في خاتمة حديثي عن هذه السيرة الذاتية الثرية أقول إنها برغم تصريح كاتبتها أنها بعيدة البعد كله عن إجراء أية مقاربة سياسية أو اجتماعية للوضع الإيراني، أقول برغم هذا كله لم تستطع آذر نفيسي أن تبتعد عن السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ الأدبيّ؛ فتواشجت تلك التعالقات المتنوعة في سيرتها واندغمت بالذاتيّ الشخصيّ. وبالتالي فإننا نجد أنفسنا بطريقة ما أمام سيرة الثورة الإيرانية ولكن من منظور مغاير جدًا. ولا أعرف لماذ تذكرني هذه السيرة الذاتية بسيرة "بجعات برية، دراما الصين في حياة نساء ثلاث" للصينية يونغ تشانغ. لعلّها سيرة الأجيال الممتدة في تأريخها الدراماتيكيّ للتحولات الكبرى في بنية المجتمعات التي تحدثت عنها!
رائعته الأدبية"لوليتا"، والمفارقة تكمن في كون هذا العمل المدهش مُنِعَ أول الأمر من التداول في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد ثلاث سنوات حققت مبيعاته أرقامًا قياسية، وأصبحت الرواية من أشهر روايات كتب الجيب الأمريكية، وباع المؤلف حقوق تحويلها إلى فيلم سينمائيّ هوليوديّ. وفي العام 2003 نشرت الكاتبة والأستاذة الأكاديميّة الإيرانيّة آذر نفيسي سيرتها الذاتيّة أولاً في كتاب أسمته"أن تقرأ لوليتا في طهران" وجعلته تحت اسم"رواية". ونفيسي هي أستاذة الأدب الإنكليزي الزائرة في جامعة جون هوبكنز في الولايات المتحدة الأمريكيّة(تحمل لقب بروفيسور) ومديرة(مشروع الحوار) في معهد السياسة الخارجيّة والأستاذة سابقًا في جامعتي طهران والجامعة الإسلاميّة الحرة والعلاّمة الطباطبائيّ. وفي سنة 1981 فُصِلَت من جامعة طهران بعد رفضها ارتداء الحجاب، وفي سنة 1994 حصلت على منحة دراسية من جامعة أوكسفورد ثم في سنة 1997 غادرت هي وأفراد أسرتها إيران متجهة إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة. وهي تكتب في الصحف الأمريكية مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وول ستريت جورنال ونيو ريببلك.
كتبت آذر نفيسيّ سيرتها الذاتية مرتين، الأولى كانت تحت إسم رواية وعنونت كتابها "أن تقرأ لوليتا في طهران" والثانية كانت سيرتها الذاتية "أشياء كنت ساكتة عنها". .ترى ماالجامع بين العملين؟ وهل ثمة تشابه بين نابوكوف الروسيّ وآذر نفيسي الإيرانيّة؟ ومن هي لوليتا التي كُتِبَت عنها رواية وضُمِنَت حياتها في سيرة ذاتية روائية؟ وماعلاقتها بالكاتبة؟ وماعلاقتها بطهران؟
إختارت آذر نفيسيّ رواية "لوليتا"لنابوكوف عنوانًا لعملها. والرواية باختصار تتحدث عن قصة طفلة صغيرة في الثانية عشرة من العمر عنيدة شرسة الطباع. وبعد وفاة والدها يغتصبها رجل عجوز اسمه هومبرت مستغلاً نزقها وطيشها ورغبتها في الاختلاف، ويسيطر على حياتها سيطرة شاملة قامعة محيلاً إياها إلى آلة صماء مُسخ لاماضٍ لها ولاحاضر ولامستقبل إلا مايكتبه هذا العجوز الذي امتلك تاريخها وأخذ يصوغه كيفما شاء إلى حد إقناعها بأنها هي المذنبة ومرتكبة الخطايا وليس هو! تقول آذر نفيسي عن لوليتا نابوكوف" إذا فكرتُ بانتقاء عمل أدبيّ يعكس واقعنا في الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة، فإنَّ هذا العمل لن يكون بأي حال "ربيع الآنسة جين برودي" ولاحتى"1984" ربّما يكون"دعوة لضرب العنق" لنابوكوف أو إنني أجد أقرب الأعمال حتى الآن هو "لوليتا". "لقد كان على هومبرت لكي يعيد ابتداع لوليتا أن يأخذ منها تاريخها الحقيقي ليضع مكانه التاريخ الذي يريد، ونحن لانتعرف إلى لوليتا إلا عن طريق هومبرت ولا نتعرف إليها عبر ماضيها، وإنما عبر ماضٍ خيالي مفترض يبتدعه الراوي الذي يقحم نفسه في حياتها.وهذا هو بالضبط ما أطلق عليه بعض النقاد نظرية الأنا عند "هومبرت".
تنتمي نفيسي إلى جيل إيراني عاش مرحلتين؛ ماقبل الثورة في عهد إيران الشاهنشاهيّة ومابعدها في عهد إيران الخمينيّة التي شهدت فيها إيران تحولات كبرى سياسيّة واقتصادية واجتماعيّة وثقافيّة، من نظامٍ ليبراليّ علمانيّ إلى نظام دينيّ متشدّد تحكمه ولاية الفقيه. وبالتالي يكتسب هذا الكتاب أهميته بوصفه سيرة ذاتية فكرية نسوية لامرأة عاشت طفولتها في إيران ثم في مدرسة داخلية في بريطانيا ثم سويسرا؛ إذ كان والدها محافظ إيران أيام الشاه. وهي تتحدر من عائلة إيرانية عريقة وميسورة تعود في أصولها إلى سلالة ملوك القاجار، واكتسبت هذه العائلة اسمها من جدها الأعلى الطبيب "ابن النفيس". وفجأة تُجبر نفيسي على القدوم إلى إيران بعد اعتقال والدها ثم تغادر لإكمال دراساتها العليا إلى بريطانيا وأمريكا وتشارك في الخلايا الثورية الماركسية لطلاب إيران في أمريكا ممن يريدون الإطاحة بحكم الشاه. عادت نفيسي إلى إيران بعد الثورة وتحديدا إلى طهران، وقضت عقدًا من الزمن هناك (1987_1997) فاصطدمت بقوانين الثورة الجديدة ورقابتها للمفكرين والمثقفين والأكاديميين وبمحاكم التفتيش التي تصادر الأدب الذي لايتفق مع منظورها الإيديولوجي، بما في ذلك إحكام الرقابة على روائع الأدب العالميّ والأفلام السينمائية وإخضاعها للبتر بمقص الرقيب. وبعد ما لقيت مضايقات كثيرة في الجامعة تستقيل وتغادر عائدة إلى أمريكا. تتحدث نفيسي عن صديقتها الرسّامة التي ابتدأت عملها بتجسيد مشاهد من الحياة اليومية وانتهى بها الأمر إلى التجريد والاكتفاء في لوحاتها ببقع متناثرة من الألوان الصارخة! تقول الرسّامة لنفيسي:" لقد أصبحنا نعيش واقعاً لايُطاق، واقعاً أسود قاتمًا إلى حد أنني لن أستطيع بعد الآن إلا أن أجسد لون أحلامي".
كان نابوكوف في التاسعة عشرة من عمره حينما قامت الثورة الروسيّة(البلشفيّة) العام 1917، ولم يسمح لنفسه بأن يتأثر بأزيز الرصاص ومناظر القتل والدماء، وواصل كتابة قصائده الصوفيّة والانغماس في عالمه الأدبيّ. وقدّم بعد سنوات مسرحية"رجل سوفييتيّ" انتقد فيها قمع الحكم الثوري(التوليتاري) للشعب الروسي.ّ تقوم نفيسي بجمع سبعة من أفضل طالباتها في مقرر الأدب الإنكليزيّ وتدعوهن لزيارتها في منزلها صبيحة كل خميس في ورشة عمل دراسية لمناقشة بعض الأعمال الأدبيّة العالميّة. و تكونت المجموعة الطالبيّة النسوية المختارة من أمزجة متباينة لشخصيات تنتمي إلى بيئات تتراوح بين الإنغلاق و الإنفتاح ومن التشدد إلى الإنفلات. ولم تلتفت نفيسي إلى تباين خلفياتهن الإيديولوجيّة أو الدينيّة، وكان المهم لديها هو عشقهن للأدب في تمثيله للحياة الإنسانيّة بكافة تعقيداتها . كانت أعمال نابوكوف وفي مقدّمها رواية"لوليتا" العمل المحوريّ الذي ركزت عليه تلك المناقشات؛ لأنَّ نفيسي أصبحت ترى نفسها وترى إيران في لوليتا فهي أدركت التشابه القائم بينهما؛ فلوليتا فقدت تاريخها وأصبحت لعبة يتحكم بها العجوز هومبرت وإيران بشراستها وجموحها تحولت إلى تابع يتحكم الملالي به وبكتابة تاريخه وامتلاكه! تقول نفيسي:"نجد أنَّ ماضي إيران الحقيقيّ قد أصبح أمرًا ثانويًا لإولئك الذين استحوذوا عليه، تمامًا مثلما أصبح ماضي "لوليتا" الحقيقيّ ثانويًا بالنسبة لهومبرت الذي غيّر اسمها الحقيقيّ من دولورس إلى لو ولولا ولوليتا".
أفصحت نفيسي في سيرتها الذاتية "أشياء كنت ساكتة عنها" عن التحولات الشخصيّة الكبرى التي مرت بها الساردة إلى جانب انكساراتها وانطلاقاتها بعد الهزائم التي مُنيت بها. وربّما كان لكتابة هذه السيرة الذاتيّة باللغة الإنجليزية ما مكّن الكاتبة من التحرر من قيود لغتها الأصلية وإيجاد مساحة كبيرة لها للحديث بحرية عن مناطق محظورة ومسكوت عنها متعلقة بالدين والسياسة والجنس. تعترف نفيسي أنها وُلِدَتْ في أسرة مولعة بسرد القصص، فلوالدها سيرة ذاتية مكتوبة منشورة اقتصرت على سرد تاريخ إيران الحديث بعد أن حذف منها السرد الشخصيّ وسيرة أخرى مشوقة حافلة بكل التفاصيل المثيرة بما في ذلك علاقة والدها بنساء أخريات، وهي سيرة غير مكتوبة وبقيت حبيسة الأوراق. تقول نفيسي" كنا كأسرة مولعين بسرد القصص. ترك أبي وراءه سيرة ذاتية منشورة، وسيرة ذاتية أخرى غير منشورة أكثر إمتاعًا، وما يزيد على ألف وخمسمائة صفحة من اليوميات". وإلى جانب والدها كانت هناك والدتها الجميلة التي تختلق الحكايات عن طفولتها وشبابها فأوجدت لنفسها سيرة ذاتية مختلقة لجأت إليها للهروب من واقعها والتحسر على حياتها مع زوجها الأول"سيفو" الذي كانت تقارنه بالزوج الثاني"والد نفيسي" وكانت المقارنة تنتهي دائمًا إلى ترجيح كفة الأول. تقول نفيسي:"طوال سني حياتنا أنا وأخي كانت تتملكنا القصص الخياليّة التي يرويها لنا أبوانا_قصص خياليّة عن نفسيهما وعن الآخرين على السواء. كل واحدٍ منهما يريدنا أن نحكم على الآخر في صالحه أو صالحهما. في بعض الأحيان كنت أشعر أنني مخدوعة، كما لو أنهما لم يسمحا لنا بأن تكون لنا قصصنا الخاصة. الآن فهمتُ كم كانت قصتهما هي قصتي أيضًا".
تمتد سيرة نفيسي الذاتيّة لتتناول تاريخ إيران بدءاً من ولادة جدتها أوائل القرن العشرين إلى ولادة ابنة آذر في نهاية القرن العشرين، وقد سمح لها هذا الامتداد الزمنيّ بتتبع سير الأشخاص في تعالقها مع السياسيّ والثقافيّ والدينيّ في سيرة ذاتية كانت أبرز سماتها الصدق والصراحة والوضوح في التعبير عن مواطن الصمت التي قد لانجرؤ أحيانًا على البوح بها على رغم إشارة نفيسي المتكررة في الكتاب إلى أنَّ سيرتها ليست مقاربة سياسيّة ولا حتى اجتماعيّة.
تقول نفيسي: "لا أقصد أن يكون هذا الكتاب تعليقًا سياسيًا أو اجتماعيًا، أو قصة حياة نافعة. أود أن أحكي قصة أسرة تتكشف إزاء خلفية عهد مضطرب من تاريخ إيران السياسيّ والثقافيّ. ثمة قصص كثيرة عن هذه الأزمنة، بين ولادة جدتي في بداية القرن العشرين وولادة إبنتي في نهايته؛ هذه الأزمنة التي وسمتها ثورتان أعطتا إيران شكلاً معينًا، وأحدثتا انقسامات وتناقضات كثيرة بحيث أصبح الاضطراب المؤقت هو الشيء الوحيد الدائم". أفصحت آذر نفيسي في سيرتها الذاتية: "أشياء كنت ساكتة عنها" عن التحولات الشخصيّة الكبرى التي مرتْ بها الساردة إلى جانب انكساراتها وانطلاقاتها بعد الهزائم التي مُنيت بها. وربّما كان لكتابة هذه السيرة الذاتيّة باللغة الإنجليزية ما مكّن الكاتبة من التحرر من قيود لغتها الأصلية وإيجاد مساحة كبيرة لها للحديث بحرية عن مناطقَ محظورة ومسكوت عنها متعلقة بالدين والسياسة والجنس. تعترف نفيسي أنها وُلِدَتْ في أسرة مولعة بسرد القصص؛ فلوالدها سيرة ذاتية مكتوبة منشورة اقتصرت على سرد تاريخ إيران الحديث بعد أن حذف منها السرد الشخصيّ وسيرة أخرى مشوقة حافلة بكل التفاصيل المثيرة بما في ذلك علاقة والدها بنساء أخريات وهي سيرة غير مكتوبة وبقيت حبيسة الأوراق. تقول نفيسي" كنا كأسرة مولعين بسرد القصص. ترك أبي وراءه سيرة ذاتية منشورة، وسيرة ذاتية أخرى غير منشورة أكثر إمتاعًا، وما يزيد على ألف وخمسمائة صفحة من اليوميات". وإلى جانب والدها كانت هناك والدتها الجميلة"نزهت نفيسي" التي كانت تختلق الحكايات عن طفولتها وشبابها؛ فأوجدت لنفسها سيرة ذاتية مختلقة لجأت إليها للهروب من واقعها والتحسر على حياتها مع زوجها الأول"سيفو" الذي كانت تقارنه بالزوج الثاني"والد نفيسيّ" وكانت المقارنة تنتهي دائمًا إلى ترجيح كفة الأول. تقول نفيسيّ"طوال سني حياتنا أنا وأخي كانت تتملكنا القصص الخياليّة التي يرويها لنا أبوانا_قصص خياليّة عن نفسيهما وعن الآخرين على السواء. كل واحدٍ منهما يريدنا أن نحكم على الآخر في صالحه أو صالحهما. في بعض الأحيان كنت أشعر أنني مخدوعة، كما لو أنهما لم يسمحا لنا بأن تكون لنا قصصنا الخاصة. الآن فهمتُ كم كانت قصتهما هي قصتي أيضًا".
يمتدُ زمن هذه السيرة في سردها لحكايا العائلة ليمثل تاريخ إيران الحديثة منذ بداية القرن العشرين إلى أواخره؛ كانت البدايات زمن الثورة الدستورية الإيرانيّة (1905_1911) التي أحدثت انقلابًا صادمًا للمجتمع الإيرانيّ المحافظ مما سمح بوجود تأثيرات غربية واضحة في بنية هذا المجتمع. لقد التحقت والدة آذر بمدرسة فرنسيّة ولم تكن ترتدي الحجاب والتقت بزوجها الأول وهما يرقصان في حفلة زواج. وتشير سيرة نفيسيّ كذلك إلى مرسوم رضا شاه بهلوي سنة 1936 بجعل كشف النقاب عن وجوه النسوة إجباريًا مما أدى إلى معارضة كبيرة من الإيرانيين لهذا المرسوم، وفي النهاية أُلغي سنة 1941 لصعوبة تطبيقه على مجتمع لايزال محافظًا في بعض طبقاته، ويعاني من ازدواجية كبرى بين العلمنة والدين.
لقد عاصرت نفيسيّ تلك الازدواجية الكبرى بين العلمنة والدين في إيران خصوصًا في سنوات نشأتها الأولى في الخمسينات والستينات؛ لقد درست في مدارس أجنبية، وعاشت طفولةً على النمط الغربيّ، وعاشت مراهقة بعيدًا عن بلدها في بريطانيا أولاً ثم سويسرا ثم دراستها في الولايات المتحدة الأمريكية وعودتها إلى إيران بالتزامن مع اندلاع الثورة الإيرانيّة، وبالتالي تأتي مفارقة كبرى تحدثت عنها الكاتبة في سيرتها هي أنَّ ابنتها أُجبِرَتْ على ارتداء الحجاب في المرحلة الأولى من دراستها الابتدائيّة؛ وهذا يعني عودة القوانين ذاتها التي سادت إيران خلال عمر جدة آذر. وبالتالي تمتلأ هذه السيرة بالتقاطعات بين الشأن الخاص والشأن العام؛ ولذلك تصرح الكاتبة قائلة"نقاط التقاطعات تلك بين ماهو خاص وعام هي ماتطلعتُ إليه حينما بدأتُ بتدوين كتابي الأول، في إيران، الذي يتناول فلاديمير ناباكوف. أردتُ أن أناقش روايات ناباكوف في ضوء الأزمنة المختلفة التي قرأتها فيها. كان ذلك مستحيلاً، ليس فقط لأنني لم أستطع صراحة الكتابة عن الحقائق السياسية والاجتماعية للحياة في الجمهورية الإسلاميّة في إيران، بل أيضًا لأنَّ التجارب الفردية والشخصيّة كانت تتعامل معها الدولة بوصفها أشياء محرمة. في هذا الوقت تقريبًا بدأتُ بوضع لائحة في يومياتي حملت عنوان"أشياء كنت ساكتة عنها"، تحت هذا العنوان كتبتُ"الوقوع في الحب في طهران. الذهاب إلى الحفلات في طهران، مشاهدة أفلام الإخوة ماركس، أن تقرأ لوليتا في طهران".كتبتُ عن القوانين القمعية والإعدامات، وعن المكاره العامة والسياسية. وفي الختام انجرفتُ للكتابة عن إفشاء الأسرار الخاصة، مورطةً نفسي وأولئك المقربين مني بطرائقَ لم أتخيلها قط".
إنَّ سرديات الصمت عند نفيسي متنوعة ولا تنحصرُ في نمطٍ واحدٍ بعينه؛ إذ تتراوح هذه السرديات من الصمت والسكوت السياسيّ إلى الصمت الشخصيّ. إنَّ أكثر أنواع السرديات شيوعًا _كما ترى نفيسيّ_ هو ذلك السرد المتعلق بالآباء الراحلين لملء الفجوة التي خلقها رحيلهم. ولذلك تصدر نفيسيّ سيرتها بالجزء الأول المعنون"قصص الأسرة الخيالية"، وبدأته بالحديث عن طاقات الاختلاق السردية التي كانت تمتازُ بها والدتها سليلة ملوك القاجار التي نجحتْ في اختلاق سيرة ذاتية رومانسية شخصية لها تتعالى بها على واقعها الحقيقيّ، وتحتفي"نزهت" سيرة الأم المختلقة تلك بسرديات الماضي المختلق أيضًا! في حين كان والد نفيسيّ"أحمد" يساعد طفلته الصغيرة"آذر" على اختراع الحكايا وطقوس السرد فتتماهى آذر مع شخصية "رودبه" في شاهنامة الفردوسيّ، وستظل هذه الشخصية لصيقةً بها لمدة سنوات طويلة بعد ذلك. ولقد قادت طاقات الاختلاق السردية تلك الطفلة الصغيرة آذر إلى احتراف الكذب وخاصة الكذب على والدتها بشأن علاقات والدها النسائية المتعددة؛ فقد كانت الصغيرة آذر متواطئة مع والدها في إخفاء تلك الغراميات عن والدتها، كما كانت ترافق والدها في مواعيده الغرامية تلك!
تتحدث نفيسي عن إيران الخمسينات والستينات حيث قضت طفولتها وجزءًا من مراهقتها المبكرة، وتتزيا تلك الطفولة بزيّ غربيّ محض؛ إذ تذكر نفيسي: " يبدو أنني أمضيت معظم سنوات طفولتي في شارع نادري وفي شبكة من الشوارع الجانبية التي تفرعت منه. هنالك مخزن الكعك المحلّى والمكان المخصص للجوز والتوابل، سوق السمك. مخزن العطور المدعو "جيلا" حيث اعتادت أمي أن تبتاع عطر نينا ريتشي، وقد كان صاحب المخزن يحتفظ دومًا بعينات قليلة مجانية لي. والمقهى الذي يحمل اسمًا أجنبيًا حيث تشتري أمي أنواع الشوكلاته خاصتها، من بين كل الروائح والأشذاء الخاصة بذلك الشارع الساحر، ما بقي مطبوعًا في ذاكرتي هي الروائح المتعلقة بالشوكلاته، التي كنا نلفظها كالكلمة الفرنسية شوكولا chocolat". وفي شارع نادري تزدحم مقاهٍ تتجاور فيها الموسيقى الفارسية مع الموسيقى العربية، و كانت الطفلة "آذر" ترتاد في طفولتها المبكرة إحدى الصالات في ذلك الشارع لتعلم رقص الباليه.
تحدثت نفيسي في سيرتها عن الأقليات من الأرمن واليهود والآذريين والبهائيين، وكان جلّ هؤلاء من أصحاب المخازن. تقول نفيسي: "مثلما كان شيئًا طبيعيًا أن يشتري المرء الحلويات والمرطبات من أصحاب المخازن الأرمن، أو أن يشتري الأقمشة والعطور من مخازن اليهود، كان من الطبيعي أيضًا بالنسبة لبعض العوائل أن تجتنب الأقليات لأنهم غير نظيفين". كان الأطفال يدقون أبوابهم منشدين :"الأرمنيّ، الكلب الأرمنيّ، كناس الجحيم". "اليهود لم يكونوا قذرين فحسب، بل إنهم شربوا دم لأطفال الأبرياء. كان الزرادشتيون عبدة النار وملحدين، بينما لم يكن البهائيون، وهم طائفة إسلامية انفصالية، مهرطقين فقط بل عملاء وجواسيس للبريطانيين وبالإمكان بل من الواجب قتلهم".
وهكذا تعامل ذلك المجتمع الطبقيّ الإيرانيّ مع تلك الأقليات تعاملاً فيه قدر كبير من الازدراء الثقافيّ للآخر المختلف عرقيًا ودينيًا. واشتملت السيرة على مواضع تحدثت فيها نفيسي عن ملحمة الشاهنامة للفردوسيّ وعن مجيء العرب الغزاة الذين دمروا الحضارة الفارسية العريقة؛ وهذا أيضًا تنميط ثقافي عنصري للغاية وقعت فيه نفيسي مع كونها باحثة أكاديمية كان لابد لها من تحري الموضوعية فيما تكتب، ولكنه الانبهار المطلق بعظمة الحضارة الفارسية هو الذي قادها إلى مثل هذا العماء الثقافي!
تمثل علاقة آذر بوالديها مفارقة عاطفية كبرى؛ ففي حين كانت علاقتها بوالدتها علاقة شائكة وملتبسة وغير مريحة. تلك الأم التي كانت تنعت آذر بأنَّ جيناتها فاسدة لأنها موروثة من زوجها والد آذر. هذه الأم التي جاءت في سيرة نفيسي كانت امرأة متعالية على واقعها باختلاق ماضٍ رومانسي كانت أسيرته ولم تتحرر منه إلى وفاتها، ولقد أصبحت عضواً في البرلمان الإيرانيّ أيام الشاه ليس لكونها جديرة بتلك العضوية وإنما بسبب مكانة طبقتها الاجتماعية ومنصب زوجها، محافظ طهران. في حين مثّل والد نفيسي الصورة النقيض ؛ فقد كان الأب الحنون الذي يسرد لطفلته الصغيرة المدللة الحكايا المستمدة من تاريخ إيران القديم وبالأخص شاهنامة الفردوسي، وكانا يشتركان معًا(الأب والبنت) في اختلاق حكايات جديدة في كل مرة. وعندما اعتقل والدها العام 1963 عندما كان محافظًا لطهران أيام الشاه بتهم ملفقة من الرشوة وسوء إدارة الوظيفة، مرت الشابة آذر بسلسلة إخفاقات عاطفية كان أبرزها قرانها الفاشل من زوجها الأول ثم تجاوزت ذلك الإخفاق بذهابها للدراسة في كاليفورنيا ومن ثم الإلتقاء بزوجها الثاني الطالب الإيرانيّ المنتمي إلى إحدى المنظمات الثورية اليسارية الإيرانية في مرحلة ما قبل الثورة الإيرانية. وقد أنجبت منه طفلين.
في خاتمة حديثي عن هذه السيرة الذاتية الثرية أقول إنها برغم تصريح كاتبتها أنها بعيدة البعد كله عن إجراء أية مقاربة سياسية أو اجتماعية للوضع الإيراني، أقول برغم هذا كله لم تستطع آذر نفيسي أن تبتعد عن السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ الأدبيّ؛ فتواشجت تلك التعالقات المتنوعة في سيرتها واندغمت بالذاتيّ الشخصيّ. وبالتالي فإننا نجد أنفسنا بطريقة ما أمام سيرة الثورة الإيرانية ولكن من منظور مغاير جدًا. ولا أعرف لماذ تذكرني هذه السيرة الذاتية بسيرة "بجعات برية، دراما الصين في حياة نساء ثلاث" للصينية يونغ تشانغ. لعلّها سيرة الأجيال الممتدة في تأريخها الدراماتيكيّ للتحولات الكبرى في بنية المجتمعات التي تحدثت عنها!