مدينة الثورة... تراب المكان في المهب*
*أحمد سعداوي
ربما اعي الآن تماماً أن الجوادر لم تكن سوى مركز وهمي لمدينة الثورة، بالنسبة لي، أنا الطفل، مطلع ثمانينيات القرن الماضي. ولكن من هناك، بين أزقة قطاع 38 وفي ساحاتها الترابية أو الطافحة بالمياه الآسنة، ولدت خلية المكان الأولى، التي امتدت بشبكة اعتباطية لتراكم فيما بعد الإحساس بجسد المدينة.
[المدينة خارج هذه الخلية هي شيء غير موجود بالنسبة لي]
ثم إن أجزاءها وتفاصيل أمكنتها تظل مرئية ومنظوراً إليها دائماً من ذلك المركز الوهمي الذي انطلق منه حضور المكان... من الجوادر، قطاع 38 بالذات.
الألفة والاستيحاش، ثنائية تخلق حاجز توتر لاختراق الأمكنة، ألفة البيت ووحشة الزقاق، ثم ألفة الزقاق ووحشة الشارع، وهكذا... حتى تصل في لحظة ما إلى قناة الجيش التي تفصل المدينة بحاجز مائي عن بغداد.
وحشة القناة وألفة السدة الترابية التي تفصل المدينة عما وراءها، وتفصل أيضاً العاصمة عن خراب الفيضانات العاتية، التي تأتي من الشمال الشرقي.
[هذه الفيضانات يكثر الحديث عنها، وعن المآسي التي سببتها، لكني حرمت من رؤية هولها المدمر]
ما بين قناة الجيش والسدة الترابية يوجد شيء اسمه: مدينة الثورة.
ثم إن هذه الهيمنة الهندسية التي تذوِّب المكان الخاص في عمومية البنية الكبيرة لم تستمر طويلاً، جنابر البيبسي والسجائر أمام البيوت، ثم الأسواق الشعبية المصنوعة من الجينكو.. بدل أن تزول من الساحات الفارغة عند التقاء الأزقة داخل بعض القطاعات (بسبب استغلالها لمكان عام) تفرعنت واستطالت وتمددت على الرغم من هجمات رجال البلدية وتكسير بضائع الباعة بين حين وآخر.
عند ذاك بدأت حدود وأبعاد جديدة قسمت بنية المكان الهندسي الكبير إلى كتل داخلية (بسبب التكييف البشري طبعاً) فظهرت حدود ما قبل وما بعد سوق مريدي على سبيل المثال، أو سوق عريبة وغيرها من الأسواق التي احتلت الجزرات الوسطية ثم الشارع العام بعناد وصلابة لم ينفع معها أي علاج.
خصوصية المدينة أن لا خصوصية (مدينية) لها. حتى اسمها.. هو اسم عام لا يحوي ابعاداً محلية او شعبية او ميثولوجية. (الثورة) أو (الشعلة) أو غيرها.. أسماء أتت من رحم الحماسة السياسية الفضفاضة.
هذه الأسماء لا تصمد أمام الغور القاتم لاسم مثل (بغداد) [ بغدان.. بغداذ.. الخ] دلالة رجراجة وغير نهائية، وذاكرة تختلط بالمخيلة وبالتراكم التاريخي، اسم لمدينة أضحت ذات اصل ميثولوجي.. بتداخل سرديات عديدة في جذرها الغائر.
آه... ولكن ما الثورة؟ سؤال لم تجب عليه التسمية الثانية للمدينة (مدينة صدام) فها هنا أيضاً تكمن قيم مفترضة وموجهة.. صدام.. قائد الثورة.. بطل التحرير القومي.. الخ.
حتى الاسم الحديث لهذه المدينة (الصدر) هو إعادة توجيه للمضمون السياسي في الاسم الأول.. الصدر.. محمد صادق الصدر.. الثورة ضد النظام القائم.. الثورة هنا أيضاً.
الكيان السياسي الفوقي ظل يضغط بقوة على الكيان الاجتماعي للمدينة، لتبقى التسمية مرتبطة بهذا الكيان الفوقي وغير نابعة من تلافيف المدينة نفسها.
المدينة لم تكن قرية فنمت ثم تطورت، لم تكن جنيناً، لقد انبثقت فجأة في هذا المكان بقرار سياسي، ظاهره الرحمة، وباطنه يحوي أشياء أعمق.
من صرائف الجينكو والخوص والسعف والطين للاجئين من الجنوب في قلب العاصمة إلى مستوطنة على حافة العاصمة، وتكاد تكون خارجها.
مدينة منبتة، وهذه صفة المدن الحديثة عموماً، مدينة لا شواخص لها تحافظ من خلالها على استمرارية نمو النسغ المديني فيها وتمنعه من التلاشي. ويبدو أن العاصمة أو (قلب العاصمة!) متهمة بذلك بشكل كبير، فهي لم تهضم الوافدين إليها، بل أقصتهم في مستعمرات الأطراف.
ولكن برغم ذلك، يبدأ المهاجرون في لحظة ما بالتحول إلى (غزاة)، جوهر العاصمة هش وقابل للتآكل، لذا بدا الإقصاء سلاحاً لمن لا سلاح له، فالغزو مستمر، ببطء، ولكن بثبات.
[الإقصاء يتعمق حين يتبنى المقصي ثنائية المركز والهامش التي خلقها من يقوم بفعل الإقصاء، وهو هنا ذات لا شخصية تمثل ذلك المركز الهش لقلب العاصمة]
الجنوبي المهاجر (الغازي) يدخل قلب العاصمة، ويدخل في الوقت نفسه في نظام العاصمة، وهو فيه (هذا النظام) يمثل الهامش المقصي، انه عامل بناء أو تنظيف أو بائع خضار أو حمال أو شرطي، وليس أكثر من ذلك. إنه وجود عابر سريع الزوال ضروري لمركزة المركز.. لكنه ليس جوهرياً، أو جزءاً من المركز.
الشاكرية نفسها (أو الميزرة وغيرها..) كمستعمرة بناء مؤقت للمهاجرين ارتحلت إلى مكان آخر لكنها ظلت كما هي، انتقلت إلى شمال شرقي العاصمة ولم يتغير فيها شيء، بيوت الصفيح والطين والسعف و(العمدان والبواري) هدمت في الشاكرية ليعاد بناؤها في الثورة.
وبعد أن اندثرت مواد البناء هذه أمام اكتساح مواد البناء الحديثة، وتحول المدينة إلى الطابوق والحديد وتبليط الشوارع والساحات وردم السواقي الطولية التي كانت مجاري ظاهرية لتصريف المياه الثقيلة، لم يبد أن الشاكرية قد اختفت.
في منتصف الثمانينيات شقت المجاري الحديثة بطون الشوارع ودخلت المنهولات للبيوت وردمت (البلاليع) لكن الشاكرية لم تختف، فنعمة الصرف الصحي لم تدم سوى سنوات معدودة ليردمها الاهمال وسوء الاستخدام وعدم الصيانة، ولتغدو مشكلة ونقمة.
[الوجود الطارئ وغير المستقر للشاكرية هو ما استمر في الثورة وبثبات]
سأروي هذه الحكاية... البيت الذي عشت فيه لسنوات عديدة انتهى الى التلاشي القسري، فبسبب طفح مياه المجاري ثم آفة المياه الجوفية، ردمت ارضيات الغرف لأكثر من مرة، وكان يرافق ذلك تقصير (رقاب) المراوح السقفية كيلا تنوش رؤوس الساكنين.
وفي نهاية الثمانينيات هدمت سقوف الغرف ورفعت لمسافة متر، حتى يرتفع البيت بأجمعه الى مستوى الزقاق، ولكن هذه العملية كانت فاشلة ايضاًَ.
كانت الدافعية للمغامرة بهدم البيت كله وبنائه من جديد، ضعيفة ولعدة عوامل.. منها الاحساس بأن الاموال التي ستصرف في بناء بيت من الصفر من الاجدى صرفها على قطعة ارض جديدة وبعيدة قدر الامكان عن المشاكل المزمنة لمدينة الثورة، وليس اقل هذه المشاكل المجاري والضغط الامني.
في النهاية وفي لحظة بدت مناسبة للجميع بيع البيت، وانفرطت العائلة الى عدة عوائل سكنت كلها في بيوت خارج الثورة.
هاجس الهجرة ظل ساري المفعول في انفس المهاجرين وابنائهم، حتى بعد ثلاثة اجيال داخل بغداد.
[على مصاطب بائع للشاي في مسطرالعمال بمنطقة علاوي جميلة منتصف التسعينيات يجتمع ثلة من الاصدقاء في ليلة شتائية ويقررون الهجرة، وهذا ما قام به كل منهم وبأسلوبه الخاص فيما بعد. ومن بقي منهم ظل مريضاً بالهجرة غير المنجزة]
وكان خيار الهجرة القصوى حاضراً لدى الجميع، حتى ان فخذاً عشائرياً كاملا يقطن الثورة انتقل بالتدريج خلال التسعينيات الى مونتريال في كندا، وفق رواية شاعت آنذاك. كل المدن والاحياء التي نشأت في بغداد بعد نشوء (الثورة) ظلت الثورة تزودها بالنازحين، كحي الجهاد والشعب وحي اور والامين والعبيدي والمشتل والحسينية وغيرها.
كل الاسواق في بغداد وكل الجنابر والبسطات غزاها اهل الثورة تباعاً. المقصي والمهمش على السطح احتل القاعدة شيئاً فشيئاً، الصحف والوزارات وقاعات الفنون والمعارض والمنتديات والاندية الرياضية وفي التسعينيات استولى المطربون الشباب (الثوراويون) على الاذاعة والتلفزيون. اجيال شعرية ومسرحية وتشكيلية كان محتواها الاكبر هم شعراء وفنانو الثورة.
اوه.. ولا ننسى اللصوص والشطار والعيارين، فهم الاعتى في هذه المدينة ايضا. كل ذلك كان يجري بطاقة التجاوز، تجاوز المهاجرين لـ(الثورة) نفسها.
التجاوز باتجاه قلب بغداد، باتجاه (البغدادية) الرجراجة التي لم تثبت لهؤلاء المهاجرين.
ولكن، كم يبدو المركز الاقصائي غامضاً وملتبساً، انه لم يعد ومنذ وقت طويل مركزاً مدينياً، فالسلطة القائمة في قلب هذا المركز هي خلية لمهاجرين آخرين. ريفيون قادمون من شمالي غربي العاصمة، اكلوا ثمرة المدينة واستولوا على روحها، فغدت هي وكأنها هم. لذا ليس من الغريب ان صفة التسامح المدينية لم تكن حاضرة، لأن قلب المدينة كان ريفياً بحتاً.
كانت العاصمة بمجملها ريفاً ملتبساً ومأزوماً بلباس المدينة، في حين أن مدن العالم تمر بمرحلة التخمة المدينية، وتحول الضواحي (الريفية) الى مستقبل مأمول لسكانها.
[من التقاليد التي كرستها السلطة الريفية او البدوية الحاكمة، هو تجاوز المدينة نفسها في البحث عن هوية ساكنيها، فيتم التعريف على اساس العشيرة او العرق او الطائفة، وتبقى المدينة وقيمها خلفية شاحبة في العمق]
الرحلة الاولى لي الى مدينة العمارة، لم تكن رحلة رومانتيكية للعودة الى الجذور وما شابه، ولكن هذه الصورة كانت حاضرة في ذهني. حين طفت بشوارع هذه المدينة، لم استطع التهرب من هاجس المقارنة، فها هي الثورة هنا. البون لم يكن شاسعاً، فالصلة ما بين العمارة والثورة ظلت دائمة طوال العقود الماضية، حتى ان تأسيس الثورة نفسها واقطاعها للنازحين مثَّل عامل جذب لنازحين جدد من العمارة ومن مدن الجنوب الاخرى.
في منتصف الثمانينيات.. عوائل بصرية كاملة انتقلت الى الثورة بسبب الحرب، وبرغم استقرارها في الموطن الجديد، إلا انها ظلت عائمة، فقانون عدم تمليك الدور والاراضي في بغداد لمن لا يملك احصاء 57 (والذي بدا انه مصمم لصد الجنوبيين عن بغداد) مثَّل حاجزاً قوياً أمام طمأنينة الاستقرار، وهذا ما شجع عدداً من هذه العوائل على العودة الى البصرة بعد نهاية حرب الثمانينيات.
على العموم انتهت المقارنة السريعة لدي بين الثورة والجنوب، الى كون الامر لا يتعدى الزحزحة المكانية، ولكن الانصات الطويل سيقود الى فروق عديدة، فالثورة مشهورة بأنها اكبر تجمع سكاني نسبة الى مساحة الارض التي تشغلها، حيث تشير الاحصائيات ان سكان هذه المدينة يشكلون ثلث سكان بغداد، يتزاحمون على مساحة أفقية من الارض لا تتجاوز 20 كيلومتراً مربعاً، وهذا ما يندر ان تجده في اماكن اخرى من العراق. وهذا التزاحم ينعكس بشكل كبير على طبيعة العلاقات الاجتماعية، وطبيعة الحركة والتعامل مع المكان بالضرورة. ثم ان الثورة ظلت المكان الذي يحوي اكبر نسبة من البطالة، وفي الوقت نفسه المكان الذي يحوي النسبة الاعلى للأنشطة الاقتصادية الصغيرة او المتوسطة، خصوصاً بعد اباحة البناء العمودي في منتصف الثمانينيات. هناك محال واسواق وورش هي الاكثر احتشاداً في بغداد.
وأعطى عدم التجذر، وتعويم الهوية الذي يعيشه الشاب في الثورة، بانقسامه بين الجنوب وبغداد، حرية وجرأة اكبر في السلوك حتى من البغدادي (الاصيل!)، يتضح ذلك بصورة جلية في صرعات الملابس وحلاقة الرأس، واقتناء الموسيقى وسماعها، حتى ان البعض قد يبالغ في الوصف ان حلاقي الثورة هم اول من يدشن القصات الغريبة، وهذا الامر ينسحب على خياطي هذه المدينة ايضاً، وما زال الى الان عدد من الخياطين المشهورين في المدينة قد يكونون الاشهر في بغداد، بسبب خاصية الجرأة والمغامرة.
قد تكون هذه فوارق حاسمة بين الثورة والجنوب، ولكنها ليست خطاً فاصلاً شديد الصلابة، فالقيم العشائرية على سبيل المثال ظلت تتغذى من الجنوب دائماً.
[في العام 1985.. في الشارع العام امام البيت، خرج الصبي لكي ينظر.. سيارة سوبر بيضاء فتحت ابوابها الاربع على مصاريعها، وفي الداخل ثلاثة رجال بدشاديش وغتر جنوبية مرقطة وعباءات.. مستلقين بكل هدوء والدماء تغطي صدورهم، فيما بعد علم الصبي ان القضية تتعلق بثأر ونزاع بين عشيرتين، الغريب.. ان المعركة الاصلية كانت قد جرت قبل ذلك وبوقت وجيز هناك في احدى زاويا الجنوب، والصورة الدموية هذه ليست سوى رد الصدى]
هذه الصلة تجذرت في النهاية لكي تكون هي السمة الطاغية، فحالة التدهور العام غطت بظلالها على جميع مفاصل الحياة، التدهور هنا تجسد بالارتكاس القوي والحاسم الى قيم العشيرة والقبيلة، على حساب ما كان يفترض انها قيم مدينية جديدة، كان قد تشرب بها على وجه التحديد جيل المواليد الستينية (الذي استيقض داخل بغداد ولم يعرف غيرها)، هذا الجيل الذي شوي بالتدريج على نار حرب الثمانينيات ثم حرب الخروج من الكويت، ثم الحصار والعقوبات الاقتصادية.ونتيجة الضغط السكاني، كان من الطبيعي ان تقذف المدينة بنسبة من سكانها غير الموسرين ممن اخفقوا بالعبور الى (بغداد!)، لينشئوا (شاكريات) عديدة خارج المدينة.. تمثلت بحي طارق وراء السدة الترابية، وحي التنك، وحسينية المعامل.. وسبع قصور.. وهي كلها مدن عشوائية ارتكس سكانها و(منشئوها) في احلامهم بصورة كاريكاتيرية قاسية، لتغدو الثورة والعودة للسكن فيها هو حلم الالفية الجديدة بالنسبة لهم!!
أما داخل الثورة نفسها فإن التكيف مع الضغط السكاني اخذ صوراً اخرى.
داخل بيت الجد، كان البيت نفسه هو حصيلة الزمن المضني الوحيدة، مع سبعة من الاولاد، وابتداءً من منتصف السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات، تحايل الجد على الفقر باستغلال الفضاء (المقدس لدى الريفيين) للبناء، وانشاء غرفة جديدة كلما رغب احد اولاده بالزواج.
[البيت انتهى الى صورة شديدة الغرابة.. غرف متلاصقة على مساحة 120 متراً مربعاً، والفضاء الوحيد المتبقي داخل البيت هو ممر طويل وخانق يبدأ من باب الحوش(آه !.. اين الحوش إذاً؟) وينتهي عند باب المطبخ الكبير المزدحم]
هذه الصورة تتكرر وبتنويعات مختلفة في اكثر بيوت الثورة، لذا غدا من الطبيعي ان جزءاً كبيراً من النشاط الاجتماعي يجري خارج البيت. المسافة بين الافراد داخل البيت قصيرة، الاجواء مشحونة على الدوام، الاحتكاك الدائم يولد التوتر، الشارع إذاً والزقاق هو امتداد لا مفر منه للبيت نفسه، للتنفس ومن ثم احتمال البيت. احدى صور هذا التمدد ان البيوت التي تطل على شوارع فرعية عريضة استغلت الرصيف الذي يفصل بين حدود البيت والشارع العام لإنشاء حديقة. قطعة من (الثيل) هي ما يحرز بها المرء حديقة، بشجرة او بدون شجرة، هذا ليس مهماً، المهم ان قطعة الثيل هذه هي مستراح العجائز والشيوخ، وربما سوِّرت بسياج (بي آر سي) يحوي باباً وقفلاً. هذه الصورة بالطبع ما كان لها ان تحدث لولا ضياع سلطة المدينة.
ثيل.. اشجار .. حديقة.. (حديقة مستشفى الجوادر).. هنا اكبر مساحة من الثيل واكبر عدد من الاشجار يمكن ان تراه في المدينة، وعلى مدى عقود انتهت بالتسعينيات كان فضاء هذه الحديقة، مجالاً حيوياً رحباً، للعوائل وطلبة الامتحانات النهائية، ولأطفال يلهون بألعاب ثابتة، كالسلالم والاراجيح. وايضاً للمتقاعدين الذين قد يشكلون بجلستهم دائرة واسعة تحرم الاخرين من مساحة الثيل الداخلية التي اقفلوها بحواراتهم المديدة.
الشيء غير البريء في هذه الحديقة.. انها كانت، بالاضافة الى لقاءات الادباء والشعراء وهواة القراءة وتبادل الكتب، مكاناً للقاءات الشيوعيين والوجوديين واتباع حزب الدعوة الاسلامية، وهي بذلك غدت غابة لصيد المخبرين ايضاً.
من الثيل الى التراب الحر. المساحات الكبيرة الخالية امام السدة الترابية كانت ايضاً (وما زالت بصورة ما) مجالاً للنشاطات الرياضية، لكرة القدم بالذات، وللتسكع، والاطلالة على المدينة بصخبها وغمامة التراب الدائمة فوقها.
جزء كبير من هذه الساحات الخالية ملئ خلال عقد التسعينيات بأسواق الخردة والاطارات المستعملة وما لا يحصى من الاشياء بما سمي حينها بـ(سوق مريدي الثاني) بسبب ان امتداد واستطالة سوق مريدي الاصلي واكله للشوارع وجزء من الازقة والساحات الفارغة بما كان يهدد بالاتحاد مع سوق الحي (حي الاكراد) جعل البلدية تتململ قليلاً في رقدتها الطويلة وتهجم لتقلم الاغصان المتطاولة لمريدي، ولكن هذه الاغصان نبتت في مكان اخر حاملة اسم الشجرة الام... مريدي.
مريدي (رقم 2) هذا، تطاول حتى اتصل في النهاية بسوق الداخل (وهي المنطقة المحاذية لما يعرف شعبياً بمنطقة الجوادر)، وغديا كتلة واحدة.
الغريب ان مريدي بمرادفاته العديدة انتقل من سوق شعبي الى سوق بغدادي كبير، بمعنى انه وفر في مرحلة نضجه النهائي الخدمة لجميع سكان بغداد، فـالدوارة (وهم صبية وشباب يدورون على البيوت لشراء الاشياء المستعملة) تحولوا الى جامعي فائض ومهمل البيوت الفارهة. كذلك دفع العوز بالعوائل الفقيرة الى بيع اثاثها، لتصب كل هذه المستعملات على الرصيف في سوق مريدي، فغدا هذا السوق قبلة لمن يبحث عن النادر او المستعمل الرخيص من ساكني بغداد بأجمعها.
[عام 1991 كان الشاب يقلب في كتب معروضة على فرشة من الجنفاص وسط السوق، حين انفجر شيء، علق البعض ساخراً انه طباخ نفطي انفجر بيد احد المصلحين، لكن الانفجار البعيد نسبياً كان شيئاً اخر، انه اطلاق ناري لقوات الحرس الخاص الذين طوقوا المدينة منذ اسابيع. لم يكن هنالك وقت لتأمل الحدث المتسارع، الاجترار واعادة الهضم سيأتي فيما بعد، حشود تركض باتجاه واحد، والطباخ النفطي يستمر في انفجاراته. داس الشاب على ساعة جدارية معروضة على الارض، بالاحرى حطمها، الامر تكرر مع بضائع أخرى، وتدافع الناس للابتعاد قدر الامكان عما حدث، وللخروج من السوق الذي بدا في تلك اللحظات المتسارعة ان لا حدود نهائية له.
فرغت الشوارع سريعاً، وانتهت الانتفاضة الصغيرة المتجاوبة مع الانتفاضة الاكبر التي كانت تجري في الجنوب (الجنوب هنا ايضاً) بضربات حاسمة من الحرس الخاص، وخيم نطاق من المراقبة الامنية لم تشهد المدينة مثيلاً له، حتى ان الشاب كان مضطراً لعرض هويته للحزبيين (اعضاء حزب البعث) ورجال الامن حين يتنقل بين قطاع واخر]
ابتداءً من هذه اللحظة ستغدو صفة الارض الملغومة اعلى من غيرها في وصف المدينة، ازدياد اعداد الفارين من الخدمة العسكرية، والارباك الذي تخلقه حملات ملاحقتهم من بيت الى بيت ومن سطح الى سطح، ازدياد حالات تسور البيوت ليلاً من قبل الحزبيين ورجال الامن لإلقاء القبض على ملتحٍ (وربما كان ملتحياً لا اكثر ولكن لا احد يدقق). سطوح المنازل التي كانت مكاناً حصرياً للمطيرجية (مربي الطيور) ولناشرات الملابس، غدت ارضاً مباحة للفارين والمطاردين (بكسر الراء)!
كل هذه الدراما تتوجت بزخات رصاص مديدة عام 1999 على صدور المتظاهرين الخارجين من جامع المحسن عقب اغتيال محمد صادق الصدر على يد السلطة. هذه اللحظة حسمت نهائياً التحول العميق والطويل داخل المدينة، وما حدث عقب سقوط النظام، هو ازالة غطاء لا اكثر.
صورة الرئيس الكبيرة المزروعة في قلب المدينة ما كان لها ان تزول سريعاً بهدمها مثلاً، ومحوها من المكان، كان هناك من يريد ان يتذكر دائماً لحظة المحو، لذا بدلت بصورة (الصدرين) الشهيدين على يد النظام صاحب الصورة الممحوة.
[يقف الشاب على مبعدة من المدينة، انها المدينة، في الوقت الذي لم تعد هي نفسها، انه يدخل الى مدينة جديدة موغلة في القدم، مدينة ما زالت رجراجة، لم تثبت مدينيتها، او بغداديتها، مدينة المحو الدائم للذاكرة (صفة المكان الصحراوي)، وربما لم تعد تعبأ ببغدادية ما، انها في قلب الجنوب، وموهوبة له تماماً، وهي في قلب بغداد ايضاً تستبيحه كيفما تشاء . يقرأ الشاب الكتابات العديدة التي تملأ حيطان الثورة فيرى اعادة تعريف للمكان، إعادة (امتلاك)، لمكان تذروه الريح دائماً، وهو ملك لها فقط].
ـــــــــــــــــــــــ
*نشرت المقالة في مجلة "مسارات" العراقية قبل سنوات، ثم في كتاب "المكان العراقي"، ثم نشرت مترجمة الى الأنجليزية واقتبس منها في مقالات ودراسات متعددة. أعيد نشرها هنا بناءً على رغبة أحد الاصدقاء، وأيضاً لوضعها امام المهتمين ممن لم يطلعوا عليها سابقاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق