الخميس، 26 نوفمبر 2015

زينب القطبي
الثلاثاء 03/04/2012

أهدي قصتي المتواضعة الى الإنسانة التي كلما تُهت ارشدتني، وان اخطأت علمتني، وان تعصبت هدأتني، وان نسيت الحق.. به ذكرتني، وان سلكت الباطل.. الى الحق وجهتني، وان فلت لساني.. بكلماتها أدبتني، وان ضعف ايماني قوتني، وان تماديت نبهتني، وان عثرت ساعدتني، وان بكيت.. الى صدرها ضمتني، وان كتبت عاتبتني، وان غفلت ايقظتني..اهديها الى السيدة ام زهراء القطبي متمنية لها الصحة والعافية والعمر المديد.

تعرض الفيليون على يد عصابة البعث الى جريمة نكراء لا يمكن نسيانها او تجاوزها او طي صفحتها، كونها شملت شعبا آمنا برمته اطفالا وشبابا ونساءا ورجالا ومزقتهم وشتتهم، وتسببت بتهجير اكثر من نصف مليون فردا منهم، بالاضافة الى تغييب ابنائهم وقتلهم فيما بعد بابشع الوسائل والطرق، ومصادرة ممتلكاتهم واموالهم وحرق احلامهم وتدمير طموحاتهم، حتى غادرتهم الافراح ليحل محلها الاحزان والسعادة ليحل محلها الهموم، والغنى تحول الى البؤس والفقر، وتحولت احوالهم من الامان والطمأنينة الى الخوف والألم والحزن. فاصبحت لكل عائلة فيلية قصة بل لكل فيلي قصة مأساوية، احداثها ترافقه كالظل حتى القبر.

· الرحيل: بغداد/ العراق

الحاج (حسين جاسم القطبي) الذي كان في الستينيات من عمره، كان يسكن مدينة بغداد ويعمل تاجرا في سوق الشورجة، وكان ثريا ويمتلك العديد من العقارات، فضلا عن سيطه وثقله بين تجار الشورجة التي كانت بيد تجار الكورد الفيليين، ويحضى بمكانة مرموقة بين التجار واهل منطقته وسمعة طيبة لسمو اخلاقه وحبه للخير ولمساعدة الاخرين. كان ينحدر من عشيرة القطبي احدى عشائر الكورد الفيلية. وكان عراقيا ابا عن جد ويمتلك الجنسية العراقية وشهادة الجنسية العراقية ويعيش مع اسرته الصغيرة في بيت يملأه الحب والحنان. الا ان بسبب الحقد العنصري والحسد والغيرة والطمع والجشع والكسب غير الشرعي وقع ضحية جاره المدعو (فرعون مطشر) الذي كان جشعا واعتاد على كسب قوته من خلال استغلال الاخرين والتسلق على اكتافهم، كما كان منكبا على كتابة التقارير الحزبية على الجيران واهل المنطقة للحصول على المكافآت لاشباع غرائزه الحيوانية.


· بغداد شارع فلسطين 1980

يحكى ان الأنسة (مريم حسين القطبي) التي كانت طالبة في الجامعة المستنصرية وتعيش حياة سعيدة وجميلة في كنف والديها، وفي ذات نهار مشمس جميل من ربيع عام (1980) رجعت من الجامعة كالعادة الى البيت، الا ان ذلك اليوم كان مختلفا تماما عن سائر الايام الأخر، كونها وجدت عددا من ازلام النظام المباد من الحزبيين ومعهم (فرعون مطشر) الذي كان قد كتب تقاريرا عديدة عن تلك العائلة مخبرا اسياده بان هذه العائلة من جذور إيرانية، بغية ان يتم تسفيرهم ليتسنى له الاستيلاء على منزلهم الكبير، وفعلا تم اقتياد جميع افراد عائلة الحاج حسين بواسطة سيارات لاندكروز الى سجن التسفيرات بالقرب من ملعب الشعب الدولي:

انوح وقد ناحت بقربي حمامة ... أيا جارتا هل تشعرين بحالي
أيا جارتا ما انصف الدهر بيننا ... تعالي اقاسمك الهموم تعالي


· تسفيرات ملعب الشعب

هي عبارة عن قاعات (جملونية) كبيرة خالية من كل الخدمات، لا تصلح ان تكون حتى مخازن للبضاعة، استخدمها النظام الصدامي في زج الالاف من العوائل الفيلية بتهمة التبعية الإيرانية، كان يزج فيها اعدادا غفيرة كل يوم ومن ثم يرحلون. بقيت عائلة الحاج حسين في سجن التسفيرات لمدة يومين لم يسمح فيهما ادخال الاطعمة والاشربة لهم بسبب الاحكام الصارمة فكل شيء كان هناك ممنوعا.

في اليوم الثاني قامت الاستخبارات العراقية بجمع كل الشباب ممن بلغت اعمارهم (18) سنة فما فوق، اقتيدوا بعدها الى قسم التفتيش الذي كان عبارة عن قسمين احدهم للنساء والاخر للرجال، وهناك تم تفتيشهم وسحب اوراقهم ووثائقهم الثبوتية وسرقة ما بصحبتهم من اموال. بعدها اقتادوا الحاج حسين الى مكتب مدير التسفيرات لاجباره على ورقة تنازل تم اعدادها مسبقا، كتب فيها ما يأتي (انا حسين جاسم القطبي أقر واعترف ان كل أملاكي هي أملاك العراق، وليس لدي أي وجه حق فيه، وانني إيراني الأصل، وقد طلبت من الحكومة العراقية بتسفيري الى بلدي الأصلي ايران، وقد تنازلت عن كل شيء عندي لصالح صاحب الحق الشرعي الحكومة العراقية، واشكرهم لقبولهم طلبي في ارجاعي لوطني الأم)، وفي الختام كتب توقيع الحاج حسين جاسم، عندها قال الحاج حسين: لكنني عراقي ومن أبوين عراقيين بالولادة، فقال له مدير التسفيرات: اتنكر انك كردي، فأجابه: لا أنكر، فقال: له اذا تعترف انك إيراني لان الفيلي ايراني اذهب وابحث عن قبر جدك سوف تجده خلف الجبل (بشتكو). بعدها وقع الحاج على ورقة التنازل، الا انه طلب منهم ان يتركوا له بعض المال، فأجابه مدير الأمن: (هاي اموال عراقية روح للخميني خلي ينطيك تومان تعيش بيه) بعدها زجوهم في شاحنات كبيرة مغلقة لا توجد فيها اية منافذ ولا مقاعد وسارت بهم باتجاه الحدود الايرانية.

معاذ الهوى ما ذقتِ طارقة النوى ... ولا خطرتْ منك الهموم ببالِ
أتحمل محزون الفؤاد قوادم ... على غصن نائي المسافة عالِ

· المنذرية/ خسروي

هو منفذ حدودي يربط العراق بايران من جهة محافظة ديالى، شهد هذا المنفذ تهجير الاف العراقيين بتهمة التبعية، الا ان بسبب صغر المنفذ كونه لا يستوعب تلك الاعداد الكبيرة، ابتكروا طريقة جديدة وهي رمي العوائل مع الضرب من على ظهر الشاحنات على طرق وعرة بعيدة عن المنذرية، تاركيهم في العراء من غير رحمة يواجهون مصيرا مجهولا اثناء توجههم نحو الحدود الايرانية. كان الوقت حينها ليلا عندما سلكت القافلة ذلك الطريق الوعر، القافلة كانت تضم مسنينا واطفالا رضع ونساءا حوامل، اتعبهم الطريق فمنهم من واصل السير ومنهم من جلس، ومنهم من افترش الارض لينام عليها، جلست عائلة الحاج حسين لتستريح قليلا ومن حولها الكثير من العوائل الفيلية الاخرى لتستعيد انفاسها بعد ذاك الطريق المتعب. كان المكان يضج بالصراخ والبكاء والعويل، بعضها كانت اصوات بكاء الاطفال، بسبب احتياجهم للحليب، واخرين بسبب البرد القارص، ومنهم تقرحت اقدامهم بسبب السير في ذلك الطريق الوعر المليء بالادغال والاشواك.


كان كبار السن يجدون صعوبة في السير في تلك الطرقات الوعرة وخاصة مع عدم وجود ادلاء، سقط العديد منهم في حفر من جراء التعب والظلام والخوف واصيبوا بالكسور، لقد بدى التعب واضحا على الانسة مريم بينما كانت جالسة، وماهي الا لحظات واغمضت عيناها ونامت. وهناك وجدت نفسها جالسة في قاعة الكلية الى جانب زميلتها وداد، تجاذبت معها اطراف الحديث، سألتها صديقتها (وداد) عن سوار جميل في يدها فأجابتها مريم: انها هدية من والدها في عيد ميلادها، تمازحتا كثيرا وارتفع صوتهن بالضحك واذا بالاستاذ المحاضر يدخل ويوبخهن، عندها انتبهت مريم من نومها واذا بها جالسة على صخرة والى جانبها رجل كبير السن يصرخ بسبب ألم ساقه الذي تعرض للكسر.نظرت بامعان حولها وادركت انها كانت تحلم برفيقتها وداد وكليتها الحبيبة، وبها مات حلمها في اكمال دراستها.

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي تعالي
تري روحا لدي ضعيفة ... تردد في جسم يعذب بالي

كانت قافلة المهجرين تتجه صوب الحدود الايرانية بينما كانت مريم تجر بيد والدتها التي اعياها تعب الطريق وهي تحاول ان تصبرها وتقول: (تحملي ما ظل شيء قليل ونوصل) وعندما تترك يد والدتها الى اختها كانت تذهب وتمسك بيد امرأة مسنة اخرى. بقيت مريم على هذا الحال ليومين لان القافلة تاهت في العراء حتى عثرت عليهم دورية ايرانية مرت قرب الحدود. استنجدت الدورية في السلطات، وبعد ساعة حضر افراد من الجيش الايراني الى المكان، نزل ضابط من سيارته الخاصة متجها نحو القافلة وسئلهم بالفارسية فلم يجيب عليه احد، بعدها حاول التكلم معهم بالعربية سائلا: من انتم وماذا تفعلون هنا وكيف وصلتم؟ اخبروه بقصتهم، فطلب منهم ان يجلسوا اربعات فجلست افراد القافلة اربعا بعد اربع، بعدها قال: اجلسوا خمسات، فامتثلوا لطلبه وجلسوا خمسا بعد خمس، بعدها قال: اجلسوا ستات، فصرخ احدهم بوجه الضابط قائلا: نحن لسنا بنعاج، فقال له الضابط: اريد ان اعرف عددكم. انتهت المشادة الكلامية بعد ان عرف الضابط بان عدد القافلة هو (273) نفرا، تسائل الضابط لكنه تم اخبارنا من السلطات العراقية بان عددكم هو (354) فاين البقية. فأجابوه ان البقية اما اضلوا الطريق او انهم لم يتمكنوا من مواصلة الطريق بسبب التعب، طلب بعدها الضابط جلب سيارات لنقل افراد القافلة. فأتت سيارات (بيكاب) مكشوفة، تم عزل النساء عن الرجال في هذه السيارات، وتم نقلهم الى العمق الاراضي الايرانية بمسافه (15) كم، بعدها تم تقديم الماء والطعام. بينما كانوا ينتظرون نقلهم الى مكان آخر اضطروا الى اشعال النيران بسبب برودة الجو، جلست مريم جنب والدها وألقت برأسها على كتفه، فقال لها والدها: كان بودي ان اجعلك سعيدة لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، نحن لا نعلم كيف سيكون مصيرنا في ايران، لكن الكتاب يعرف من عنوانه، ومن خلال استقبالهم يبدوا لي ان المعيشة سوف تكون قاسية. أرتأت مريم ان تغفوا في احضان والدها بانتظار صباح افضل.

الا ايها الليل الطويل انجلي ... بصبح وما الاصباح منك بأمثلي

استيقظت مريم على اصوات زقزقة العصافير على شجر الصفصاف في ذلك الصباح الجميل، رأت كتبها متناثرة هنا وهناك قامت بجمعها وبعد ان غيرت ملابسها نزلت الى الطابق الارضي حيث كانت والدتها قد اعدت لها فطورها، تناولتها على عجل ليصطحبها والدها الى جامعة المستنصرية، دخلت رواق الجامعة كانت صديقتها وداد لم تصل بعد، جلست في انتظارها، وماهي الا دقائق حتى وصلت زميلتها، ولم تبدو على ما يرام، سألتها مريم: ماذا بك؟ فلم تجيب، فقالت لها: (ياساتر يا الله شبيج احجي) فأجابتها وداد وهي تبكي: لقد تم القبض على خالي البارحة، فسألتها مريم عن السبب، فقالت وداد يعتقد انه ينتمي الى حزب معارض، فقالت لها مريم: واين هو الان؟ فأجابت: لا يعرف احدا مكانه، لربما نقلوه الى احدى المعتقلات. عانقت مريم صديقتها واخذن يطبطبن على اكتاف بعضهن. كانت يد الحاج حسين بارده وهو يمررها على وجه مريم ليوقظها ويخبرها، بوصول الحافلات الايرانية لنقلهم الى مدينة قريبة، عندها تم فصل العوائل عن البعض حيث فصلوا النساء في حافلات، والرجال في حافلات اخرى، وسارت بهم في ظلام الليل نحو مدينة (كرمان شاه).

أيضحك مأسور وتبكي طليقة ... ويسكت محزون ويندب سالِ
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ... ولكن دمعي في الحوادث غالِ

كانت السيارات تشق ظلام الليل في طريق جبلي مرتفع وهي تحمل معها جميع افراد القافلة، سارت بهم لمدة ثلاثة ساعات، بعدها نزلوا من تلك السيارات ليركبوا غيرها، هذه المرة جلست مريم الى جانب زجاجة الحافلة وبجانب والدها، كانت ترى بين الحين والاخر اضواء قرى صغيرة في طيات الجبال العالية، كانت اضواء القرى تشكل لوحة جميلة، مسكت فرشاتها واخذت تلون تلك اللوحة، رسمت بها طفلة صغيرة تسيل الدموع من عينها على خديها, ولطالما كانت ترسمها في جميع لوحاتها، وكل من كان يسألها تجيب هذه انا. احبت مريم الرسم وتعلقت فيه كثيرا وكان خالها معجب جدا بلوحاتها، وكلما كان يأتي لزيارتهم يسألها هل من لوحة جديدة؟ كان يشجعها على الرسم ويوفر لها كل ما تحتاج من ادوات. انتبهت مريم من غفوتها واذا بها جالسة في مكانها، ولم تكن تلك اللوحة الا صورة لقرية من قرى ايران، تثاقل الحزن في خلجات مريم ادمعت عيناها. نظر الحاج حسين الى ابنته رأى الدموع في عينها، اخذ يمسحها بيده، وقال لها: (لا تحزني يا ابنتي الي خلقنا ما يعوفنا هذه الدنيا دار فناء ودار امتحان وان الله اختارنا لهذا الامتحان فيجب ان ننجح به)، وضعت مريم رأسها في حضن ابيها الذي كان هو كل شيء لها. الذي كان في بعض الاوقات يتصابا معها ويلاعبها، وفي احيان اخرى هو مربي فاضل وكذلك معلم، بينما في وقت اخر يكون ابا صارما يحاسب ويعاقب، كانت مريم فخورة جدا بأبيها، كونه رجل عصامي بنى حياته بنفسه، حتى اصبح تاجرا كبيرا، وكان يحترم بيته جدا. كان عند الغروب عادة في بيته، حيث كان يقول لا خير في رجل ترك عائلته وقت الغروب ويذهب ليتسكع. كان كل ليلة يجلسون ويتسامرون على مائدة الطعام ويقضون وقتا طويلا حيث كان الحاج حسين يقول ان ساعات الطعام لا تحتسب من العمر، فلنجلس اكبر وقت ممكن كي لا يحسب من عمرنا، كانت هذه حكمته، وكانت العائلة سعيدة بهذه الحكمة.

كان الحاج حسين ينتقد تصرفات حكومة الطاغية صدام في احاديثه، ويحث التجار على ان يكونوا يدا واحدة، وعدم القبول بدفع فلسا واحدا الى جلاوزة النظام الذين اعتادوا على اجبار التجار بدفع الاموال لهم بين فترة واخرى.

سارت القافلة مدة ساعتين وتوقفت في مكان مظلم، عندها صعد الى الحافلة خمسة اشخاص مسلحين واخذوا يتفحصون الركاب في امعان، بعدها تم انزال اربعة من الشباب بعد ان وضعوا في ايديهم الاغلال. وبعد فترة علمنا ان المخابرات العراقية قد قامت بدسهم بيننا، لكن المخابرات الايرانية كانت على علم في الامر. بعدها استمرت الحافلة بمسيرها وهي تشق طريقها في دماس الليل متجه الى (كرمان شاه). وصلت قافلة المسفرين الى (كرمان شاه) نزلوا بعدها في (جملونين) كبيرين واحد للنساء واخر للرجال، كان الوقت حينها اول الفجر، وبعد ان صلو صلاة الفجر افترشت مريم الارض بجانب امها واغمضت عيناها مستسلمة الى نعاسها الشديد. رن جرس التلفون كان الوقت الساعة الخامسة فجرا استيقظت مريم من نومها العميق على صوت التلفون نزلت من غرفتها الى الصالة رفعت سماعة الهاتف وقالت: تفضلوا، كان على الطرف الاخر وداد وهي تبكي فسألتها مريم: ما بك؟ قالت: لقد تم اعدام خالي واستلمناه ليلا بعد دفع (25) دينار ثمن الاطلاقات، كانت تبكي بكاء شديدا تقول: ان خالها قد تعرض الى اشد التعذيب، ومن شدة التعذيب اصبح لون جسمه بنفسجيا. اخذت مريم بالبكاء الشديد كان بكاءه بصوت مرتفع وضعت أم مريم يدها على كتف مريم لتوقظها قائلة: اغسلي وجهك فانهم طلبوا منا ان نجهز انفسنا للفطور، وبعدها سيتم نقلنا الى مكان اخر، استقيظت مريم من نومها، كانت لطالما تحلم بصديقتها العزيزة وتتشوق لسماع اخبارها.

قالت فهلا فدتك النفس احسن من ... هذا لمن كان صب القلب حيرانا
يا قوم ادنى لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين احيانا

بعد تناول الافطار جاءت سيارات نوع (كوستر) وانطلقت بنا في تجاه الجبال، سارت هذه السيارات في طرق ضيقة وعالية كانت العوائل تخاف من منظر الطريق الخطر، جلست مريم بجنب اختها وهن ينظرن من خلال النافذة الى القرى التي تقع على جانبي الطريق، كانت تبدو بدائية، الا ان اعمدة واسلاك الكهرباء كانت تمر وسط تلك القرى فضلا عن توفر بقية الخدمات، توقفت السيارات عندما اعترض طريقها قطيع من الاغنام يتقدمه رجل مسن معه طفل صغير، فبتسمت مريم الى الطفل، تذكرت قاسم حين كان يبلغ من العمر تسعة اشهر، كان يعاني من ضعف في القلب وانسداد في احدى الصمامات، لطالما سهرت مع امها طوال الليل لترعيانه، في احدى الليالي ازرق لونه، فاسرع والده بنقله الى مستشفى ابن النفيس بقي منتظرا طبيب الخفر لمدة اربعة ساعات في صالة الانتظار، بعد ان نفد صبره صرخ الحاج حسين بأعلى صوته اين الطبيب الخفر؟ ولماذا كل هذا الانتظار؟ ابلغه مسؤول الاستعلامات ان لا يرفع صوته. بدى عليه من خلال كلامه بعثي من الطراز الاول، كونه اخذ يلقي خطبة يمجد بها الحزب والثورة ومنجزاتها ومابنت من مستشفيات وقدمت من خدمات، صرخ به الحاج حسين قائلا: هذه خيرات الوطن وليس للحكومة اي فضل في هذا، استدعى مسؤول الاستعلامات امن المستشفى وعلى اثرها سجن يومين كاملين في مركز للشرطة، اما زوجته اخرجت ابنهما قاسم من المستشفى بعد ان ابلغها الطبيب بضرورة اجراء عملية له، الطفل كان لا يزال ينظر مبتسما الى مريم، انطلقت السيارات من جديد، وصلوا بعد ثلاث ساعات ونصف الى قرية اسمها (نور اباد) كانت الحكومة الايرانية قد بنت فيها معسكرا للاجئين يتكون من حوالي (35) بيتا صغيرا، بينما عدد العوائل كان اكبر بكثير، اضطر الحاج حسين وغيره ان ينصبوا خيمة وسط المعسكر. الحالة كانت سيئة للغاية، الماء كان قليلا وله اوقات محددة اما الكهرباء كان متقطعا، لم تتوفر وسائل تدفئة رغم شدة البرد، الطعام ايضا كان قليلا جدا، كانوا يقدمون الشاي والسكر والجبن والخبز فقط، بقيت العوائل على هذه الحالة السيئة في هذا المعسكر اكثر من (40) يوما منتظرين امر نقلهم الى مكان اخر. كانت السلطات تجري تحقيقا يوميا مع اربع او خمسة انفار فقط، يسألون عن سبب قدومهم الى ايران، حتى جاء دور الحاج حسين حيث سأله المحقق عن سبب قدومه، فاجابه قائلا: حتى اتبارك في وجهك الكريم، فغضب المحقق من هذا الجواب، فقال له: هل تسخر مني؟ فأجابه الحاج حسين: بل انت من تسخر في سؤالك مني، بينما انت تعرف جيدا نحن قد تم تسفيرنا، ولم نأتي بناءا على رغبتنا، فلماذا هذا السؤال اذن؟ قال المحقق: من حقي اسأل كل شيء، ولا تنسى ان علاقاتنا غير جيدة مع العراق، ومن حقنا معرفة الصغيرة والكبيرة. بعدها ابلغ المحقق الحاج حسين بانه سيتم نقلهم الى مدينة (جهرم) بعد اكمال التحقيق. واضاف: ستشكر الله حينها على هذا التأخير وستتذكر كلامي هذا. فهم الحاج حسين ما قصده المحقق تماما، وادرك ان هناك متاعبا كبيرة وظروفا قاسية جدا في انتظارهم في مدينة (جهرم). كانت العوائل ما تزال تعاني في معسكر (نور اباد) الواقع في قرية (نور اباد) النائية، كانت القرية تقع في الجهة المقابلة لمدينة حلبجة العراقية. اخذت الخدمات تقل يوما بعد يوم حتى تم نقلهم الى مدينة (جهرم) والتي كانت تبعد حوالي (18) ساعة بواسطة السيارات.

فقلت احسنت انت الشمس طالعة ... اضرمت في القلب والاحشاء نيرانا
يا ليتني كنت تفاحا مفلجه ... او كنت من قضب الريحان ريحانا

· استان فارس / جهرم

جهرم مدينة صغيرة تقع في محافظة (فارس) التي عاصمتها (شيراز) تبعد مدينة جهرم عن شيراز (180) كيلو مترا، تأسست هذه المدينة على يد جد الشاه وجعلها مدينة لنفي المعارضين اليها. اسست حكومة الشاه في التسفيرات الاولى التي حدثت في بداية السبيعينيات مجمعا سكنيا في اطراف مدينة (جهرم) على مسافة (14) كم شرق المدينة، واعدها لاستقبال المسفرين، كان المعسكر عبارة عن مخيم وفيه مخزن للمواد الغذائية وبئر للماء وسينما ومسجد ومخبز وكذلك ادارة، كان يحيط به اسوارا من اربعة جهات. كان له بابا واحدا للخروج والدخول، فيه غرفة استعلامات وكذلك حرس بالاضافة الى موظف استعلامات، والى الجوار منه كانت هناك غرفة للتحقيق يقيم فيها المحقق وكان من الاطلاعات الايرانية، كما كان مسؤولا عن منح الاجازات لمن يريد السفر الى داخل ايران، وكان امر الحصول على اجازة متعبا جدا ويستغرق وقتا ليس بقليل. اما في تسفيرات الثمانينيات اعتمدت الحكومة الجديدة المكان نفسه والنهج نفسه وفي الخيم نفسها، كل شيء تغير في ايران خلال التغيير الا (اردوكاه جهرم) بقي على الحال نفسه. وكأنه كان غير مشمولا بالتغيير، وكذلك على العراقيين ان يبقون يعانون ويعيشون حالة العذاب، ومن سوء الادارة وظلمها استبعد العراقيون ان يكون (الاردوكاه) تابعا للجمهورية اسلامية، كانوا يعتقدون ان ادارة المخيم بيد اناس يكرهون الدين بسبب القوانين التعسفية التي لا يقبل بها الله ولا رسوله.

بعد مرور سنتين من التسفيرات قامت الحكومة الاسلامية برفع الخيم وازالتها، وبنت بيوت من البلوك بدلا منها، كل بيت فيه غرفتان وتواليت فقط لا يوجد مطبخ ولا حمام، اضطر سكان المجمع ان يبني كل منهم حماما ومطبخا من الصفيح (الجنكو) لعائلته، كان المجمع يزود بالماء من بئر قديم جدا فيه مضخة لسحب الماء، كان يُسكب زيت مولدات الكهرباء في ذلك البئر القديم، يصل الماء الى المجمع ممزوجا بالزيت. الكهرباء كانت لا تشغل الثلاجة، وكانت تنقطع فترات طويلة. قليل هم من سكان المخيم من حصلوا على فرصة عمل كعامل بناء او في قطف الثمار في بساتين الحمضيات المنتشرة هناك. كانت حالة العمال ترثى لها، وكان الفقر منتشرا في (الاردوكاه). حيث كان على الفرد ان يعمل ثلاثة اشهر فقط، ليعيش بعدها بذلك القوت لمدة سنة كاملة. الادراة قربت اليها بعض الاشخاص في المجمع كي يتجسسوا على الباقين. وعندما كانت هناك زيارة مرتقبة من احدى المنظمات، تقوم ادارة المجمع مسبقا بحملة تنظيف واسعة ويجهزون المجمع بالمستلزمات الضرورية كالغذائية والطبية والماء والكهرباء وتوفير البطانيات وغيرها، وما ان تنتهي الزيارة حتى تعود الحالة الى سابق عهدها. كانت المنظمات تجلب معها مساعدات كبيرة لسكان المجمع، لكنهم لا يحصلون منها غير الفتات، حيث يتم تقسيم الغنيمة بين الرؤوس الكبار للمسؤولين على المخيم.


بعد عناء طويل وصلت قافلة المسفرين الى (اردوكاه جهرم) كان وقتها لازال الخيم موجودة، استقبلتهم ادراة المجمع وضعتهم في (جملون) كبير حتى الصباح، قدمت لهم الشاي والجبن افترشوا الارض ليناموا من شدة ما اصابهم من تعب، افترشت مريم الارض جنب امها اغمضت عيناها وهي تدمع، ايقتنت تماما بان حياتها ابتدأت الان بكل معاني القساوة. كانت الافكار تتشتت داخل رأسها، نظرت الى السقف الذي كان من الصفيح يغلفه نسيج العنكبوت ادركت ان حياة جديدة لم تعهدها من قبل قد بدأت. ارجعت شريط ذاكرتها الى الخلف الى نور اباد- كرمان شاه- المنذرية- تسفيرات ملعب الشعب- شارع فلسطين منزل فخم كبير بناه الحاج حسين في أواخر السبعينيات، الذي كان يتكون من طابقين مؤثث باثاث فاخر وفخم، فتحت مريم خزانتها اختارت اجمل بدلة فيها، ارتدتها وهي مسرعة، وقفت امام مرآتها تسرح شعرها الجميل الطويل، نادتها امها اسرعي يامريم تأخرنا، كونهم كانوا مدعوين الى حفلة تخرج خالها من كلية الزراعة، ذهبت عائلة الحاج حسين الى منزل جد مريم بعد ان اشترت الهداية. كما كان في يد مريم اكليل من الورد قدمته الى خالها بمناسبة نجاحه، كان لمريم ثلاث اخوال يحبونها ويدللونها، بعد حفلة التخرج بشهور بدأت حملة التسفيرات تم احتجاز خوالها في السجون ولم يعرف لهم مصيرا الى اليوم. رجعت مريم من ذاكرتها وهي تنظر الى سقف (الجملون) اغرورقت عيناها من جديد بالدموع، بقت على هذا الحال حتى آذان الفجر.

جاء مدير المجمع وقال لهم سوف نعطيكم خيم وعلى كل عائلة ان تنصب خيمة لها، بدأ الحاج حسين بنصب بيته الجديد في مجمع (جهرم) وساعده بعض الشباب، كما اعطت ادراة المجمع لعائلة الحاج حسين قدرين فافون و(6) صحون فافون و(6) ملاعق فافون وبكنيك صغير (بريمز غاز) ولكل نفر بطانيتين.

كان العراقيون الذين لايجدون عملا يذهبون الى بلدية المدينة ويعملون في البلدية كمنظفين في الشوارع، لم يستسغ الحاج حسين ذلك عمل وعليه صبر اياما أخر، حصل بعدها على عمل في احد البساتين، كان العمل متعبا مقابل اجر زهيد جدا، كان يرجع الى بيته والتعب قد اخذ من جسمه ما أخذ، استمرت المعاناة في (الاردوكاه) سنتين كاملتين، بعدها قررت الحكومة الايرانية ازالت الخيم لبناء بيوتا بدلا منها تتكون من غرفتين وتواليت فقط. واخيرا اصبح للحاج حسين بيتا يأويه وعائلته، وان كان صغيرا وحارا جدا صيفا وباردا قارصا شتاءا. كان يذهب في فصل الشتاء الى البستان يعمل وفي الصيف يجلس بلا عمل حتى اشتد به المرض، الا انه كان صامدا من اجل جلب لقمة العيش لعائلته، تمكن الحاج حسين ان يشتري خروفا ليقدمه كأضحية الى والده في عيد الاضحى. كانت مريم تنظف اللحم وتعده للوليمة التي كانت بالمناسبة زواج خالها، كان الضيوف كثيرون، كان خال مريم يستعد للبس بدلة العرس حينها داهمتهم قوات الامن البعثية، من دون ان توجه له اية تهمة، لكنهم علموا ان احد الجيران قد كتب تقريرا الى الحزب يخبرهم بان العائلة تستمع الى الاذاعة الايرانية، اقتاد رجال الامن خال مريم في ليلة زواجه وساقته الى احد السجن ولم يخرج منها الى بعد عدة شهور، انتبهت مريم الى صوت والدتها وهي تنظف في لحم الأضحية، ادركت انها سرحت في ذكرى مأساة خالها.

كان الاهالي في (الاردوكاه) يتزاوجون ويتصاهرون فيما بينهم،الا ان مريم رفضت هذه الفكرة، كون المكان لا ينفع ان يولد به طفل ليتحمل تلك المعاناة، فرفضت كل المتقدمين لها وكان والدها مؤيدا لتلك الفكرة تماما، فهو كان يعتقد ان المكان والحالة لا يصلحان لتكوين اسرة وانجاب اطفال. فكيف سينشأ الاطفال في تلك الظروف الصعبة والتعسفية، الادارة كانت تقوم بأخذ متطوعين يوميا لتزجهم في الحرب العراقية الايرانية. كان الحاج حسين رافضا فكرة المشاركة وفكرة الحرب بكل تفصيلها. كان بين الحين والاخر تدخل توابيت للقتلى، او تصل الى عوائلهم خبر فقدان البعض او اسرهم، فكلما اشتدت المعارك، اشتدت قساوة الادارة على المسفرين، كونها كانت تعتبروهم عراقيين، ولا ينظرون اليهم كمضطهدين لاحول لهم ولا قوة، وفي احد ايام شهر رمضان كان الجو فيه حارا جدا، استلقى الحاج حسين بعد ان فطر مع افراد عائلته كي ينام، عائلته تعودت كل ليلة ان يوقظها الحاج حسين لتناول السحور، الا ان في هذه الليلة لم يوقظهم للتسحر، استيقظت مريم على عجل كي تدرك السحور فسارعت لتوقظ افراد العائلة وجدت الحاج حسين نائما، ذهبت برفق لتصحيه فلم يصحو.. بعد لحظات دوت في أفق (الاردوكاه) صرخة شقت سكون الليل.. لقد ارتفعت روح الحاج حسين الى بارئها.

(( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ))

بَعد ونّ.. بَعد ونّ ياكلبي.. لا تبطل الونّ..
بَعد وين..مثل ما ضيعت تلكه.. بعد وين..
يشايل نعش غالينه.. ولك وين

ادفنه هنا وبكلبي الشجية